
في نزوحه الخامس عشر، وصل المدرّس والمؤلّف الموسيقي أحمد أبو عمشة إلى شاطئ غزة، حاملاً عائلته ومقتنياتهم القليلة و«غيتاره» الذي يصفه بـ«سلاحه ضدّ اليأس». يقول أبو عمشة لـ«الشرق الأوسط» إن الموسيقى مكّنته من «رؤية النصف الممتلئ من الكوب المحطّم»، منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وخلال أحد الدروس للأطفال النازحين، تبرّم الصغار من أزيز طائرة الاستطلاع («الزنّانة»)، فأجابهم: «سنواصل الدرس ونغنّي معها وعلى نوتتها». انطلقت الأغنية التراثية «شيل شيل يا جمّال شيل»، وتحول ضجيج السماء إلى لازمة إيقاعية تروّض الخوف وتستدرّ ابتسامة.
قبل الحرب، درّس أبو عمشة في «المدرسة الأميركية الدولية» بغزة و«معهد إدوارد سعيد للموسيقى»، لكن استوديوه في بيت حانون دُمّر بالكامل. وعلى طريق نزوحه الطويل، استعاد العزف في رفح بعد نحو عشرة أشهر من انقطاعه، فالتفّ حوله الأطفال وولِد مشروع «طيور غزة تُغنّي» من قلب الخيمة. ومع كل انتقال، واصل المربّي الغزّي تدريس الغناء والعزف بالتعاون مع أساتذة محترفين، حتى بلغ عدد التلاميذ نحو 200 طفل يتلقّون حصصاً في الغناء وآلات العود والغيتار والناي والطبلة، مع اختبار بسيط للصوت والأذن الموسيقية للراغبين. ويؤكد أن استخدام تقنيات العلاج بالموسيقى ساعد أطفالاً مصابين بالصدمة على استعادة التواصل والاختلاط، فيما غيّر كثير من الأهالي رأيهم بعد أن لمسوا أثر الحصص على أبنائهم.
يخاطب أبو عمشة متابعيه على وسائل التواصل غالباً بالإنجليزية «لأن معظمهم أوروبيون وأميركيون بحكم عملي السابق»، وهو ما ساهم في انتشار المبادرة وتلقّي دعمٍ بالآلات والمستلزمات. ويشرح: «الرسالة الأهم: فوق الركام والدماء والخوف… ما زلنا نغنّي». ورغم فقدانه مقرّبين، بينهم أحد طلابه (يوسف، 15 عاماً) الذي قُتل أثناء محاولته الاتصال بعائلته، يحرص أبو عمشة على الدرس اليومي والسهرات الغنائية داخل خيم النزوح. «عندما أسمع أصواتهم وأرى ابتساماتهم، أنسى أننا في حرب… وأوقن أن الأمل ما زال ممكناً»، يقول وهو يعلّق غيتاره مجدداً على كتفه، استعداداً لدرسٍ آخر.