سلايدات

هل يرى نتنياهو خشبة خلاصه في لبنان؟

كتب جوني منير في الجمهورية:

على رغم من العراقيل التي يجهد على وضعها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ومعه اليمين المتطرف، إلّا أنّ الترجيحات حيال نتائج مفاوضات شرم الشيخ تنحو في اتجاه التفاؤل. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يمارس ضغوطاً هائلة، وهو المستعجل على اقتناص «فوز» تاريخي، سيسمح له وفق حساباته على الحصول على جائزة نوبل للسلام. ولذلك فهو يضغط بقوة لتحقيق قرار إنهاء الحرب سريعاً، وتحديداً قبل نهاية الأسبوع الجاري. واندفع الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير في خطوة إستفزازية، في اتجاه باحات المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي، طلباً للمواجهة والفوضى، بهدف نسف المفاوضات. لكن ضغوط ترامب تبدو أكبر وأكثر تأثيراً.

وتأكيداً على جدّيته القصوى، أرسل ترامب ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر إلى شرم الشيخ، في إشارة قوية إلى أنّه يريد نهاية «سعيدة» وسريعة. وهو كان أعلن عن اجتماعه بهما قبل انطلاقهما إلى مصر. وانضمّ الموفدان الأميركيان إلى رئيس الوزراء القطري ورئيس المخابرات التركية وأيضاً الوزير الإسرائيلي الأقرب إلى نتنياهو رون ديرمر. صحيح أنّ هنالك خلافات كثيرة تحوط بطريقة تفسير خطة العشرين نقطة، لكن ضغوط ترامب تقول إنّه لا يجب أن يشكّل ذلك عائقاً أمام الموافقة على خطته. وفي الوقت الذي أرسلت إيران إشارات قوية إلى أنّها لن تعمد إلى العرقلة، مرّة مباشرة ومرّة أخرى عبر حليفها الأهم أي «حزب الله»، بعدما كان موقفها سلبياً قبل أيام معدودة فقط، فإنّ نتنياهو بدأ يشعر بأنّه يتّجه إلى خسارة معركته عبر الخضوع لقرار وقف الحرب. فبخلاف ادعاءات الربح، فإنّ اليمين الإسرائيلي بات يدرك في وضوح، أنّ مشروعه باستمرار الحرب حتى تهجير غزة من سكانها بات مهدّداً.

وفي قراءة تاريخية سريعة، لم يعد سراً أنّ الحكومات الإسرائيلية، ولاسيما منها اليمينية، شجعت ولادة حركة «حماس» ونموها. وكانت تهدف من وراء ذلك إلى خلق منافس ديني بوجه ياسر عرفات ومن أتى بعده، على أن يشكّل ذلك عائقاً أمام تثبيت ركائز السلطة الفلسطينية. فالهدف هو نسف فكرة مشروع «الدولتين» لمصلحة قيام الدولة اليهودية. ولذلك كانت الحكومات الإسرائيلية تتسامح مع التمويل الشهري الذي كانت تتلقّاه حركة «حماس» منذ إحكام قبضتها على قطاع غزة، وتغض النظر في الوقت نفسه عن تهريب السلاح إليها عبر معابر سيناء، لاعتقادها أنّها لن تشكّل تهديداً أمنياً حقيقياً على أمن إسرائيل. وحين حصلت مواجهات عسكرية في الأعوام 2008، 2009، 2012، 2014 و2021، بقيت العمليات العسكرية تحت سقف مخفوض ومدروس، وحملت عناوين يكتنفها الغموض، مثل «استعادة قوة الردع» و«تغيير قواعد اللعبة». ولا شك في أنّ أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت تراقب حركة «حماس» وتتابعها، لكنها أخطأت في تحليل التهديد الذي كان ينمو ويكبر داخل أنفاق غزة الهائلة. وهي ليست المرّة الأولى. فقبل ذلك أخطأت الإستخبارات الإسرائيلية في قراءة وتحليل إستعدادات سوريا ومصر لحرب العام 1973، على رغم من امتلاكها معلومات كافية، ما أدّى إلى توجيه ضربة قوية لإسرائيل في حرب مباغتة. وأطاحت تحقيقات ما بعد الحرب بغولدا مائير والطاقمين السياسي والعسكري. وهو ما يشكّل سبباً إضافياً لنتنياهو لعدم وقف الحرب وفتح باب المحاسبة الداخلية.

 

في غزة، لم تدرك الأجهزة الإسرائيلية المعنية أنّ حركة «حماس» المدعومة بقوة من إيران، تعمل لتحقيق هدف مختلف تماماً عمّا تأمله إسرائيل، ألا وهو بناء ذراع عسكرية قوية جداً. ومع إطلاق عمليتها «طوفان الأقصى»، فوجئت لا بل صُدمت إسرائيل بالقوة العسكرية لـ«حماس». كما أنّ الحركة نفسها فوجئت بالضعف العسكري للقوات الإسرائيلية المنتشرة حول غزة. ومنذ ذلك الحين، أي منذ عامين بالتمام والكمال، اعتمد نتنياهو، المذهول من النتائج الكارثية، وبالتفاهم مع واشنطن، إستراتيجية جديدة ترتكز على تدمير القوة العسكرية التي بنتها إيران في غزة والمنطقة، والشروع في إحياء مشروع تفتيت المنطقة وفق دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، إضافة إلى هدف إسرائيلي ضمني يرتكز على تصفية الوجود الفلسطيني نهائياً في فلسطين.

 

وعملية «طوفان الأقصى»، والتي تضمنت هجوماً محكماً ومنسقاً على جبهات متعددة، أظهرت إسرائيل أنّها فقدت ميزة الردع التي لطالما تغنت بها، وبنت مجدها الإقليمي عليها. ولا بدّ أنّ نتنياهو يعيش هذا الهاجس، وهو المدرك انّ وقف الحرب سيعني تشكيل لجنة تحقيق رسمية وفتح قاعات المحاكمة. ولا بدّ من الملاحظة أنّ نتنياهو لم يعلن أبداً منذ بدء الحرب بأنّه يتحمّل ولو جزءاً من المسؤولية، بخلاف بعض المسؤولين العسكريين الكبار مثل الرئيس السابق لأركان الجيش هرتسي هاليفي. لا بل إنّ نتنياهو يرفض تحميله أي مسؤولية، ويلقيها على عاتق المستوى الأمني. كما أنّه يرفض تشكيل لجنة تحقيق رسمية، ويدعو بدلاً من ذلك إلى تشكيل لجنة حكومية، تمنحه القدرة على التأثير والتحكّم بقرارات أعضائها.

 

والأسوأ بالنسبة إلى نتنياهو، تلك العزلة الدولية التي تعاني منها إسرائيل لأول مرّة منذ إنشاء هذا الكيان. والتعاطف الدولي كان يشكّل إحدى أوراق القوة التي كان يردها نتنياهو إلى سياسته. فمن مشهد التظاهرات المندّدة التي تجتاح العواصم العالمية، والتي كانت تُعتبر حليفة لإسرائيل، وصولاً إلى قاعة الأمم المتحدة شبه الفارغة عند إلقائه كلمته، كل ذلك سيشكّل ما يشبه المقصلة لرأس نتنياهو السياسي.

وفي استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، ظهر انخفاض حاد في الثقة بالحكومة الإسرائيلية، والذي وصل إلى 61% مقابل 38% لمصلحتها. وحول تحسن الوضع الأمني منذ 7 تشرين، أعطى 43% جواباً إيجابياً مقابل 42,5% قالوا إنّه ازداد تدهوراً. أما 51% فأعربوا عن خشيتهم من احتمال وقوع حدث مشابه ليوم 7 أكتوبر في المستقبل. واللافت أنّ 53,5% فقط إعتبروا أنّ الجيش مستعد بدرجة عالية لحماية بلدات الشمال. وهذه الأرقام تدفع نتنياهو للإستمرار في مغامرته الحربية لا العكس.

 

وما بين فشل مشروع اليمين بتهجير جميع الفلسطينيين من أرضهم، والمخاطر الشخصية والسياسية التي باتت تهدّد مستقبل نتنياهو، أمل رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن تنسف حركة «حماس» مبادرة ترامب. لكن نتنياهو الذي يدرك أنّ ترامب الذي يعاني في الداخل الأميركي، سينفجر غضباً بوجه من سيقف أمام طموحه بالفوز بجائزة نوبل للسلام. وغضب شخص مثله سيكون عاصفاً بلا أدنى شك. وطالما أنّ حركة بن غفير الإستفزازية في اتجاه الأماكن الإسلامية المقدسة لم تؤد إلى الردود المطلوبة، بات على الحكومة الإسرائيلية اليمينية التفكير بحلول أخرى لإبقاء البلاد في حال الحرب، والمقصود هنا جبهات إيران واليمن ولبنان والضفة الغربية.

 

بالنسبة لإيران، فإنّ القرار يبقى أميركياً في الدرجة الأولى أكثر منه إسرائيلياً، وهو ما أثبتته الحرب الأخيرة. وطالما أنّ إدارة ترامب تعمل على تطويع إيران من خلال العقوبات، إلى جانب أسلوب التفاوض، فإنّ استعادة الحرب عليها لا يبدو ميسّراً في هذه الفترة على الأقل. فوفق الحسابات الأميركية، فإنّ أي حرب جديدة على إيران قد تؤدي إلى انهيار النظام القائم بسبب مشكلاته الداخلية الكبيرة، وهو ما لا تريده واشنطن الآن. أضف إلى ذلك، أنّ خطر السلاح النووي لم يعد قائماً في المرحلة الراهنة.

 

أما بالنسبة إلى الحوثيين في اليمن، فإنّ الجبهة بعيدة، والحوثيون قادرون على تحمّل أكلاف المواجهات مهما كانت كبيرة. أضف إلى ذلك، أنّ عمليات القصف على مناطقهم لا ينتج وقعاً كبيراً على الشارع الإسرائيلي. وبالتالي تبقى جبهتان: الضفة الغربية و«حزب الله».

 

وجاء إعلان إسرائيل عن اكتشاف شحنة أسلحة كبيرة إيرانية إلى الضفة، ليطرح الأسئلة حول ما يعمل نتنياهو للتحضير له. وهذا ما دفع بملك الأردن، القلق من تداعيات هذا المشروع على استقرار الأردن الداخلي، إلى التواصل بسرعة مع واشنطن، محذّراً من خطورة هذا المشروع على استقرار بلده، وهو ما سيشرّع الأبواب أمام إيران للعودة بقوة إلى المنطقة من خلال الفوضى التي ستنتشر، بعدما جرى إخراجها منها بالقوة. وربط الملك عبدالله بين ما يخطّط له نتنياهو وبين الآمال المعقودة على نتائج المفاوضات الدائرة في شرم الشيخ.

 

تبقى الساحة اللبنانية، والتي قد تبدو لنتنياهو أقل تعقيداً للذهاب في مغامرة جديدة. فاستهداف «حزب الله» يحظى «بجاذبية» إسرائيلية داخلية، وفي الوقت نفسه قد لا يلقى معارضة دولية كما هو حاصل الآن على المستوى الفلسطيني. لكن ثمة عوائق بدأت تظهر في الأفق. فإدارة ترامب باتت تستمع أكثر لتقييمات الديبلوماسيين في وزارة الخارجية والخبراء في سياسة الشرق الأوسط. ويميل هؤلاء إلى تشديد الضغط على «حزب الله» وتنفيذ رقابة جوية قوية عليه، ولكن من دون التورط في حرب واسعة جديدة. فوفق هؤلاء، فإنّ حرب الإستنزاف الجوية تؤدي غرضها. ولكن يجب التنبّه إلى أنّ إدارة ترامب لن تعارض نتنياهو في حال قرّر رفع مستوى الحماوة، عبر توجيه ضربة واسعة إلى «حزب الله».

 

كذلك، فإنّ رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا لاوون الرابع عشر، قرّر أن يكون لبنان أول محطة خارجية له بعد انتخابه. صحيح أنّه سيزور قبل ذلك تركيا، لكن هذه الزيارة تأتي في إطار الإحتفال بالذكرى التاريخية لأول مجمع في تاريخ الكنيسة في المكان نفسه الذي عُقد فيه، أي أنّ الزيارة يمكن إدراجها في الإطار الديني، وهي لا تأتي في السياق نفسه لزيارة لبنان. ومن الواضح أنّ زيارته للبنان، والتي لم يستطع سلفه تحقيقها لأسباب عدة، تأتي في إطار دعمه للبنان وللمسيحيين فيه إزاء المخاطر الكبرى التي يتعرّضون لها. وهي زيارة دعم للدولة اللبنانية ولرئيس الجمهورية، وهو الرئيس المسيحي الوحيد بين الدول العربية ودول المنطقة التي يعصف بها التطرّف الديني. وبعد زيارة البابا لاوون، يجري التحضير لزيارة أخرى سيقوم بها شيخ الأزهر إلى لبنان، ومن المفترض أن تحصل قبل نهاية السنة الجارية. واستطراداً، هل سيغامر نتنياهو بإشعال جبهة لبنان، ما سيؤدي إلى إجهاض هاتين الزيارتين، في وقت ستتركّز الأضواء الإعلامية الدولية على لبنان، ولكن من زاوية مختلفة تماماً عن زاوية العنف والحرب؟

 

تاريخياً، عوّدتنا إسرائيل بأنّها لا تعير إهتماماً كبيراً لاستحقاقات من هذا النوع. صحيح أنّ نتنياهو يعاني من عزلة دولية، وهو لا يناسبه استمرار الوضع على هذا المنوال، لكنه في الوقت نفسه قلق إلى أقصى حدّ من وضع رقبته السياسية تحت مقصلة الإدانة الداخلية وأحكام التاريخ. ما يعني أنّه قد يجد نفسه ملزماً بالإندفاع إلى الأمام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى