
كتب المستشار محمد البرجي:
في زمنٍ يتكاثر فيه الضجيج وتختنق فيه الحقيقة،
يبدو لبنان وكأنه يتنفس بصعوبة تحت ركام الخيبة.
جيل كامل وُلد من رحم الحرب، كبر في العتمة، وشيخ في الصمت، يحدق في وطنٍ يتكرّر مشهده كل يوم دون أن يتغير عنوانه.
لم يعد السؤال: من يحكم لبنان؟
بل: من يحلم به بعد؟
في وطنٍ أرهقته الأزمات حتى صار اليأسُ عادةً وطنية، يتردّد السؤال المرّ: أين الجيل اللبناني من معركة الوعي؟
أين صوته في زمنٍ يُكتب فيه المستقبل من خارج حدوده؟
لقد أقمنا لأنفسنا مقبرةً في صمتنا،
وسمّيناها “الواقعية السياسية”!
كلّما نظر اللبناني إلى المشهد العام وجد نفسه خارج الإطار،كأن الوطن شاشةٌ تُعرض على غير أهله،وحكوماتٌ تتناسل دون أن تحكم،
وبرلماناتٌ تُشرّع دون أن تمثّل.
في هذا العبث المزمن، تحوّل المواطن من فاعلٍ إلى متفرّج، ومن صاحب حقٍّ إلى متسوّل وعي.
جيلٌ كاملٌ نشأ في زمن انقطاع الكهرباء… وانقطاع الأمل،تعلّم الجغرافيا من الحرب، والتاريخ من النسيان،حتى صار السؤال اليوم:
هل مات فينا الإحساس بالحلم؟
أم أننا نؤجّله إلى إشعارٍ آخر؟
ليست المعضلة أن شبابنا لا يفهمون السياسة،
بل أن السياسة لم تترك لهم مجالًا ليتنفسوا داخلها.
من حاول أن يشارك نُفي أو أُقصي،
ومن صمت عاش في هامشٍ رماديٍّ بين الولاء والنجاة.
اختُطفت لغة الإصلاح من النخبة،
واحتُكر صوت الثورة بالسلاح،فلم يبقَ للجيل الجديد سوى أن يقول الحقيقة في قلبه… ثم يعتذر عنها بصمته.
هذا الجيل يشبه الحقول التي لم تُزرع منذ سنين:
خصبةٌ في العمق، قاحلةٌ في المظهر،
وكلّ ما تحتاجه هو غيثُ ثقةٍ يُعيد للتربة حياتها.
نحن لا نفتقد الغضب، بل نفتقد النظام في الغضب.
لا نفتقد الشجاعة، بل نفتقد اللغة التي تترجمها.
حوّلنا الخيبة إلى “حكمة”، والخوف إلى “دهاء”،
حتى غدت الاستكانةُ سياسةً رسمية للأمل.
كل واحدٍ منّا ينتظر “من يجرؤ أولًا”،كأنّ الوطن رقعةُ شطرنجٍ لا تتحرّك إلا بإشارة الملك!
لكن من قال إن الملوك يصنعون التاريخ؟
التاريخ تصنعه الشعوب حين تكتب وثائقها بعرقها ووعيها،حين ترفض أن تُدار كقطيع، وتُصاغ كأمّة.
لبنان اليوم بحاجة إلى وثيقة وعي قبل وثيقة دستور،
وثيقة تُعيد تعريف العقد بين المواطن والدولة،
تضع الكفاءة قبل الطائفة. ، والنزاهة قبل الانتماء،
وتجعل الوظيفة خدمةً لا غنيمة،
والسياسة مسؤوليةً لا مغنمًا.
وحان أن يكتب الجيل اللبناني بيانه الأخلاقي:
بيانٌ يقول إن الوطن لا يُصلَح بالولاءات بل بالمواطنة،ولا يُبنى بالاتفاقات الخارجية بل بالإرادة الداخلية.ربما يبدو اللبنانيون اليوم صامتين،لكن تحت هذا الصمت نارٌ تنتظر أول نفَس حرية.وكل جيلٍ يُسكتونه، يُنجب جيلًا أكثر فصاحة.فلا أحد يهرب من الوعي إلى الأبد،
ولا يمكن للأمم أن تُخدَّر إلى ما لا نهاية.
سيأتي اليوم الذي يكتب فيه شباب لبنان وثيقتهم أيضًا، وثيقةً لا تبدأ بالبُنود، بل تبدأ بالقَسَم:
أنّ الوطن ليس غنيمةً، بل رسالة.
ولأن التاريخ لا يرحم الصامتين،
فإمّا أن نكتب جملة البداية بأيدينا،
أو نُترك حاشيةً في كتابٍ يكتبه الآخرون عنّا.
الجيل الذي يصمت اليوم، قد يُدفن غدًا في الهامش،لكنّ الذي يصرخ بالحلم، يصنع الصفحة الأولى من الغد.
فلتكن لنا شجاعة الكلمة… قبل فوات الوطن.