
كتب ابراهيم ريحان في اساس ميديا:
هل يُرغَم لبنان على التفاوض مع إسرائيل بالقوّة، بخاصّة أنّ “الحزب” يرفضُ بشكلٍ قاطع مبدأ التّفاوض المُباشر، بينما تسعى الإدارة الأميركيّة إلى بدءِ هذه المفاوضات بصيغة مدنيّة لإلحاق لبنان بركب السّلام بعد سوريا، كما أشار إلى ذلكَ المبعوث الأميركيّ توماس بارّاك في تغريدته؟ وهل لبنان بموقعِ تفاوضٍ صعب؟ وما هو دور السّفير الأميركيّ الجديد ميشال عيسى؟ ولماذا تعتبر إسرائيل نفسها في موضع قوّة؟
لا ينفصل كلام رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون عن أهمّيّة التّفاوض مع إسرائيل على النّقاط العالقة عن أجواء ما بعدَ حربِ غزّة واتّفاق شرم الشّيخ. إذ جاءَ كلام عون في وقتٍ كانَ الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب يستعدّ للنّزول من على منبر الكنيست الإسرائيلي ليتوجّه نحوَ مدينة شرم الشّيخ المصريّة.
بدأت المنطقة برمّتها فصلاً جديداً في مسارها السّياسيّ. كلّ شيء تغيّر منذ السّابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. لكنّ التغيير الجذري بدأ بعد وثيقة وقمّة شرم الشّيخ. وهذا يتزامنُ مع صفحةٍ أميركيّة جديدة في لبنان سيكون عمادها السّفير ميشال عيسى.
لا ينفصل كلام رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون عن أهمّيّة التّفاوض مع إسرائيل على النّقاط العالقة عن أجواء ما بعدَ حربِ غزّة واتّفاق شرم الشّيخ
بين عيسى وأورتاغوس
يُدركُ عون جيّداً أنّ الإدارة الأميركيّة تُريد إطلاق مسارٍ تفاوضيّ بين بيروت وتل أبيب “مُنكّه” بطابعٍ مدنيّ – سياسيّ. إذ إنّ التّفاوض ينحصر حاليّاً عبر لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائيّة (MECHANISM)، التي تُعتبرُ في الأساس لجنةً عسكريّة تضمّ ضبّاطاً لبنانيّين وإسرائيليّين وأميركيّين وفرنسيّين.
لكنّ مشاركة نائبة المبعوث الأميركيّ إلى الشّرق الأوسط مورغان أورتاغوس في بعضِ اجتماعات اللجنة يُرادُ منها أن تكسرَ النّمطيّة العسكريّة للمفاوضات بصفتها مبعوثةً مدنيّة – سياسيّة لا عسكريّة.
ما تُريده الولايات المُتّحدة حقيقةً يتعدّى التّفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل. وهذا ما سيكون على رأس أجندةِ سفير الولايات المُتّحدة المُعيّن لدى لبنان ميشال عيسى. يصلُ عيسى إلى لبنان لمُباشرة مهامّه بعد أيّامٍ قليلة، وذلكَ بعدما أقرّ مجلس الشّيوخ الأميركيّ تعيينَه خلفاً للسّفيرة ليزا جونسون.
سيكون عيسى أكثر من سفيرٍ. فهوَ على اتّصالٍ مباشرٍ مع الرّئيس الأميركيّ، وهذه “حظوة” لا ينالها كثيرون في الولايات المُتّحدة. وتدلّ على أهمّيّة إطلاق مسار التّفاوض بين لبنان وإسرائيل، في وقتٍ أعادَ الرّئيس ترامب حديثه عن “توسيع نطاق اتّفاقات السّلام في المنطقة”.
واحدٌ من أبرز أشكال الضّغط الأميركيّ لفرضِ التّفاوض المباشر بين بيروت وتل أبيب كانَ ما صرّحَ به المبعوث الخاصّ إلى سوريا توماس بارّاك، الذي غرّدَ مُلوّحاً بحربِ إسرائيليّة وشيكة ما لم يُنزَع سلاح “الحزب”، وأشارَ إلى أنّ لبنان هو الامتداد الطبيعيّ لعمليّة السلام بعد سوريا، ونزع سلاح “الحزب” شرط أساسيّ لتحقيق الأمن الإقليميّ.
الأخطر في كلام بارّاك هو قوله إنّ نفوذَ “الحزبِ” في الحكومة عطّلَ خطّة حصر السّلاح. وهذا يتقاطع مع السّرديّة الإسرائيليّة الجديدة عن أنّ أيّ مواجهة أو تصعيد مع لبنان ينبغي ألّا يُفرّق بين “الحزبِ” والدّولة اللبنانيّة.
ما تُريده الولايات المُتّحدة حقيقةً يتعدّى التّفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل. وهذا ما سيكون على رأس أجندةِ سفير الولايات المُتّحدة المُعيّن لدى لبنان ميشال عيسى
المُفاوضات المدنيّة
يستشهدُ الأميركيّون بتجربة التّفاوض على ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل بين 2021 و2022. إذ لم ينحصر الوفد اللبنانيّ حينذاك بالشّخصيّات العسكريّة، بل أصرّ رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون على “تطعيم الوفد” بشخصيّات مدنيّة – تقنيّة مثل عضو هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان وسام شباط والخبير نجيب مسيحي.
إلى ذلك لا تنظر واشنطن إلى الملفّات العالقة بين لبنان وإسرائيل من نظرة أمنيّة – عسكريّة، بل تعتبرها ملفّات سياسيّة. ولهذا تضغطُ واشنطن باتّجاهِ أن يتخلّل أيّ مفاوضات حضور شخصيّات دبلوماسيّة.
في الوقت عينه يعتبر لبنان أنّ تجربتَيْ لجنة الهدنة والـMECHANISM وترسيم الحدود البحريّة أثبتتا أنّ التّفاوض غير المباشر يُحقّق المطلوب من دونِ أن يكونَ التفاوض المباشر ضرورةً.
هذا ويعتبر لبنان الرّسميّ أنّ من غير الواقعيّ أن يتفاوض لبنان مع إسرائيل على انسحابها من النّقاط المُحتلّة في جنوب لبنان. ذلكَ أنّ إسرائيل هي التي تحتلّ أراضي كانَ من المطلوب أن تنسحبَ منها مع إتمام الأيّام الـ60 لدخول اتّفاق وقف الأعمال العدائيّة حيّزَ التّنفيذ.
يُضاف إلى ذلك أنّه لا يوجد أيّ أسير إسرائيليّ في لبنان ليُفاوض على تبادلٍ للأسرى، بخاصّةٍ أنّ ورقة التفاوض التي كانت لدى “الحزبِ” تبخّرت بعد إطلاق سراح الباحثة إليزابيث تسوركوف في العراق، وتبيّن لاحقاً أنّ إطلاق سراحها من دون أيّ مقابل كانَ بسبب ضغوطٍ أميركيّة.
يتسابق لبنان المُتمسّك بالتّفاوض غير المُباشر مع مطالب إدارة الرّئيس ترامب الذي لا ينفكّ يكرّر سياسته “السّلام بالقوّة”
ضمّ إيران إلى اتّفاقات السّلام؟
هذا يعني أنّ لبنان يدخلُ المُفاوضات من موقع الضّعيف لا القويّ، فإسرائيل تعتمدُ على نقاطٍ تعتبرها قوّة بالنّسبةِ إليها:
- حماسة الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب لإطلاق مسار تفاوضٍ يُؤدّي إلى سلام بين لبنان وإسرائيل قبل نهاية ولايتهِ الحاليّة.
- التّفوّق العسكريّ والأمنيّ الإسرائيليّ بعد الحرب الأخيرة. إذ ترى إسرائيل أنّ استعمال القوّة بين 23 أيلول و27 تشرين الثّاني 2024 أدّى إلى تقديم “الحزبِ” تنازلاتٍ لم يكن بوارد تقديمها قبل ذلك، وفي مقدَّمها قَبوله بفكّ ارتباط جبهة لبنان عن غزّة وتسليمه منطقة جنوب نهر الليطانيّ للجيش اللبنانيّ.
- يسمحُ وقف الحرب في غزّة لإسرائيل بتركيز جهودها السّياسيّة والعسكريّة على الجبهة الشّماليّة مع لبنان. وهذا ما ظهرَ في عدّة استهدافات طالت أهدافاً لا ترتبطُ ارتباطاً مباشراً بالجناح العسكريّ لـ”الحزب”، مثل اغتيال مُهندسَيْن يعملان لمؤسّسة “جهاد البناء” وقصف الجرّافات في عدلون والمصيلح، وأخيراً الغارات التي استهدفت معمل الإسمنت بين بلدتَيْ أنصار وسيناي.
هذا يشير إلى أنّ إسرائيل ترفعُ مستوى ضغطها العسكريّ على المؤسّسات التّابعة لـ”الحزبِ”، وذلكَ في إطار سياسة أنّ تفكيك “الحزب” عسكريّاً يعني استهداف كلّ مؤسّساته التي تعمل في الإطار المدنيّ.
- تعتبر تل أبيب أيضاً أنّ احتلالها للنّقاط الـ7 في جنوب لبنان يسمحُ لها بالضّغط على الحكومة اللبنانيّة، بخاصّة أنّ الجدال في بقاء قوّات “اليونيفيل” من عدمه لا يزال قائماً. وهذا ما تريد منه إسرائيل أن يضغط باتّجاه إنجاز خطواتٍ لبنانيّة بشأن نزع سلاح “الحزب”. هذا وتطمحُ لاستغلال وجودها في النّقاط المُحتلّة لفرضِ وقائع جديدة على الحدود البرّيّة، التي يعتبرها لبنان مُرسّمة بحسب اتّفاق “بوليه – نيوكومب” المُوقّع سنة 1923.
من هذا المُنطلق، يتسابق لبنان المُتمسّك بالتّفاوض غير المُباشر مع مطالب إدارة الرّئيس ترامب الذي لا ينفكّ يكرّر سياسته “السّلام بالقوّة”. وهذا يعني أنّ الأخير قد لا يُمانع ضربات أو حملة إسرائيليّة لفرضِ التّفاوض بين لبنان وإسرائيل، خصوصاً أنّ الولايات المُتّحدة تسعى بعد نجاحها العام الماضي في فكّ ارتباط جبهة لبنان عن غزّة إلى فكّ ارتباط جبهة لبنان عن إيران.
هذا الارتباط هو كلمة السّرّ وراء تمسّك “الحزبِ” بالسّلاح بانتظار ما إذا كانت الوساطات ستنجح بين طهران وواشنطن، أو أنّ جولة قتاليّة أخرى ستندلع على جبهة طهران لـ”فرض السّلام” بالقوّة. وهُنا ينبغي أن يُقرأ بعناية ما قاله ترامب عن نيّته ضمّ إيران إلى مسارِ السّلام. فهذا لا يعني بالضّرورة ضمّها إلى هذا المسار بـ”التي هي أحسن”.