
كتبت جوزيان الحاج موسى في نداء الوطن:
في زمنٍ كانت فيه الحرب اللبنانية تختزل مأساة وطنٍ يتنازعه الداخل والخارج، برز جيلٌ من الشباب اختار أن يقف على خطوط النار دفاعًا عن فكرةٍ اسمها لبنان. لم يكن الدفاع يومها مجرّد مواجهةٍ عسكرية، بل كان معركةً من أجل الهوية، الوجود، وحرية الشرق بأسره. هؤلاء الشباب، المنضوون في صفوف «القوات اللبنانية»، شكّلوا السدّ الأول في وجه أيّ اختراقٍ خارجي، ووقفوا في وجه مشروع تحويل لبنان إلى ساحةٍ مستباحة. وبينما كانت المدافع تُطلق على الجبهات، كان بعض أبناء الوطن يوجّهون سهامهم إلى الداخل.
لكن ما كان لافتًا في تلك الحرب، أنّ لبنان لم يُدافع عنه اللبنانيون وحدهم. ووسط الفوضى والغوغاء، جاء إلى بيروت رجالٌ من فرنسا وإيطاليا ودولٍ أوروبية وعربية أخرى، لا بصفة مرتزقة ولا طامعين بمكاسب، بل مؤمنين بأن سقوط مسيحية الشرق هو سقوطٌ للغرب نفسه، وبأن الدفاع عن لبنان هو دفاعٌ عن آخر حصون التنوع في هذا الشرق المتعب. من بين هؤلاء كان تيبو دو لا توكني، المهندس الفرنسي الذي ترك مقاعد «المدرسة المركزية» في باريس، ليحمل السلاح إلى جانب «المقاومة اللبنانية» بين عامَي 1982 و1984. جاء بدافع الإيمان، لا الأيديولوجيا. رأى في لبنان أكثر من وطنٍ صغيرٍ يواجه حربًا أهلية؛ رآه رمزًا لحضارةٍ مهدّدة. وقد يبدو غريبًا أن يتخذ أوروبي شاب قرارًا كهذا، لكن حين تصغي إلى شهادته، تدرك أن الإيمان بالقضية يمكن أن يتجاوز الجنسية والحدود.
منذ لقائه الأول ببشير الجميّل حتى مرافقته سمير جعجع في بداياته، ومن ساحات القتال إلى العمل الإنساني والسياسي، يروي دو لا توكني في حديثه إلى «نداء الوطن» كيف تحوّل «الالتزام العسكري» إلى قناعة فكرية وإنسانية، وكيف أصبحت السيادة اللبنانية اليوم، برأيه، الوجه الجديد للمقاومة.
من باريس إلى بيروت… ولادة قناعة
يستعيد المهندس والكاتب الفرنسي تيبو دو لا توكني بدايات ارتباطه بلبنان، وهو ارتباط لم يكن سياسيًا في بدايته بقدر ما كان وجدانيًا وثقافيًا. ففي نيسان من عام 1980، وخلال رحلة شبابية إلى بيروت، التقى الشاب الفرنسي آنذاك بشير الجميّل في مقرّ الكتائب في الصيفي. كان اللقاء بداية انبهارٍ شخصيّ وشبابي عام بالظاهرة اللبنانية، كما يسميها: «لقد كان بشير في بدايات صعوده، يوحّد الفصائل ويصوغ مشروع المقاومة اللبنانية. بالنسبة إليّ، كان ذلك حبًّا من النظرة الأولى تجاه لبنان».
في فرنسا، كما يروي، كان جيل كامل من الشباب يتابع بدهشة صمود الشبان المسيحيين في وجه الفصائل الفلسطينية. «حتى وإن لم يكن الفلسطينيون إسلاميين متشدّدين، كان هناك بُعد ثوريّ إسلاميّ في حركتهم، وكان رمزهم «يرموك» إشارةً إلى انتصار الإسلام على المسيحيين في التاريخ»، يقول. ويضيف: «كنا ندرك ذلك جيدًا، في فرنسا التي تعيش تناقضاتها بين ثورتها المعادية للكنيسة وبين جيل جديد من المفكرين ورجال الدين المقاومين للشموليات، من الشيوعية إلى الإسلامية الشيعية والسنيّة على السواء».
عودة بعد الاغتيال
بعد تخرّجه من المدرسة المركزية للهندسة في باريس، خطّط دو لا توكني للعودة إلى لبنان في خريف 1982 للتدريس، لكن اغتيال بشير الجميّل في 14 أيلول غيّر كل شيء: «كنت مدمّرًا نفسيًا. تردّدت قليلًا ثم قلت لنفسي: سأعود على أي حال».
في تشرين الثاني من العام نفسه، حطّ في بيروت. بدأ عمله أستاذًا، لكنه ما لبث أن التحق بــ «القوات اللبنانية» في المدفعية. يروي أن القيادة آنذاك كانت قد أوقفت استقبال الأجانب خشية الاتهام بتجنيد مرتزقة، «لكنهم قبلوني لأن حماسي كان جارفًا». يضيف بابتسامة: «كنت من القلائل الذين سُمح لهم بذلك. في منتصف السبعينات شارك عشرات الفرنسيين وبعض الإيطاليين، وسقط منهم قتلى نكرّمهم حتى اليوم في فرنسا».
من الحرب إلى الالتزام الإنساني
بعد اغتيال بشير، يقول دو لا توكني إنه وجد نفسه أقرب فكريًا إلى سمير جعجع، «من دون أن أكون يومًا تحت إمرته العسكرية». التقاه للمرة الأولى في دير القطارة عام 1983 بعد معارك الجبل. «كنت أستعدّ للعودة إلى فرنسا، فأخبرته أنني سأغادر، فنظر إليّ كمن يقول:»كيف تذهب ونحن في البداية؟»، يروي ضاحكًا.
عاد بالفعل إلى بلده، لكنه ظلّ يعود كل عام إلى لبنان. ومع مرور الوقت، تحوّل نشاطه من الميدان إلى العمل الإنساني. تولّى نيابة رئاسة منظمة Chrétienté Solidarité، التي ساعدت آلاف الأطفال عبر رعاية نحو 3,000 يتيم بالشراكة مع اللعازاريين والأب نعومة طلّاع.
كما تابع العمل السياسي والدعم القانوني لملف سمير جعجع خلال فترة اعتقاله، «فقد قدّمنا عبر جمعيتنا محاميًا فرنسيًا، فاليران دو سان جوست، الذي تمكّن من زيارته في السجن». على المستوى الشخصي، اشترى شقة في كفور قبل نحو ثمانية عشر عامًا وبات «على علاقة ودّية وعائلية» مع آل الجميّل، بمن فيهم نديم الذي التقاه للمرة الأولى في منزل جان ماري لوبان في فرنسا.
خيار عقائدي ودفاع عن حضارة
يصرّ دو لا توكني على أن قراره لم يكن عاطفيًا فقط بل خيارًا عقائديًا: «كان دفاعًا عن حضارة. في فرنسا يعيش المجتمع تراجعًا دينيًا وعلمنة متطرفة. أما في لبنان، فحتى مع المظاهر المادية، ثمة عمق روحيّ يجعلنا نتنفس». ويشير إلى أن كتابه الجديد ليس فقط مذكرات عسكرية بل هو أيضًا «تأمل إنساني»، إذ شارك عام 1986 في تنظيم نشاط شبابي في مزرعة لبنانية لتعليم الشباب معنى المقاومة كقيمة أخلاقية، «وكان الهدف أن يرى الفرنسيون كيف يمكن لمجتمع صغير أن يقاوم».
ويستطرد في مقارنات إقليمية: «انظر إلى المسيحيين في سوريا والعراق، تضاءل وجودهم إلى الربع. أما في لبنان، فبفضل المقاومة السياسية والمجتمعية بقوا. نعم، كان هناك دور لإسرائيل أيضًا في إخراج الفلسطينيين المسلحين، لكن الشعب اللبناني لعب الدور الأبرز».
ويستعيد إعجابه ببشير الجميّل: «حتى شارون كان معجبًا ببشير. أقولها مازحًا: «الوحيد من اليهود الذين أحببتهم هو شارون، لأنه احترم بشير».
ويقول: «عندما خرج سمير جعجع من السجن سألته: نحن في فرنسا نواجه خطر الإسلام السني، فهل أنتم واثقون بأن التطرّف الشيعي أخطر؟ فأجابني: في لبنان، الخطر الأول هو التطرّف الشيعي. وكان على حق». ويضيف: «ربما ساعده الحظ قليلًا، لكن تطور الأحداث أثبت ذلك. فالمملكة تغيّرت مع محمد بن سلمان، واتفاقات أبراهام خففت الاحتقان السنّي – الإسرائيلي، بينما تصاعد النفوذ الإيراني. اليوم، لا أحد يشك أن الخطر الأكبر على لبنان هو قيام جمهورية إسلامية بنسخة شيعية».
من المقاومة إلى السياسة
«أنتم مقاومة انتصرت تقريبًا»، يقول دو لا توكني موجّهًا حديثه إلى اللبنانيين. «إذا جرى نزع سلاح «حزب الله» فستكون الانتصارات مكتملة. لكن بعدها يأتي التحدي الأصعب: إعادة البناء».
يتوقف قليلًا قبل أن يضيف بابتسامة: «أعرف أن الرئيس جوزاف عون هادئ أكثر من اللازم، وربما أوروبا تتردّد، لكن الضغط الدولي مستمر. ترامب وجعجع والكَتائبيون يسيرون في الاتجاه الصحيح. سامي شابّ مميّز بكل معنى الكلمة، فهو قبل كل شيء قائد، أمّا نديم فهو قبل كل شيء مفكّر يتمتّع بذكاءٍ وعمقٍ لافتين.
رسالة لبنان إلى المسيحيين في العالم
في خاتمة حواره، يتحدث دو لا توكني بشغف عن الصورة التي يودّ أن ينقلها في كتابه: «لبنان يقدّم درسًا فريدًا للمسيحيين في العالم. هو البلد العربي الوحيد الذي لم يخضع للذمية، حيث يعيش المسيحيون شركاء في السلطة لا مواطنين من الدرجة الثانية. صحيح أن هناك فسادًا في بعض المؤسسات الكنسية، لكن في المقابل هناك رهبان وقديسون وبطاركة حفظوا الوجدان». ويقارن بمرارة بين واقع لبنان وفرنسا: «في لبنان هناك ثلاثون بالمئة من المسيحيين الناشطين، أما في فرنسا فخمسة بالمئة بالكاد يمارسون إيمانهم. الكنيسة شبه غائبة، والمجتمع فقد جذوره». ويضيف: «حتى البائع البسيط في لبنان يتحدث بالسياسة، يملك رأيًا ووعيًا وطنيًا. هذا نادر في الغرب. لذلك، رغم التحوّل من مقاومة عسكرية إلى سياسية، تبقى التجربة اللبنانية مثالاً. أتمنى أن يفهم الرئيس ترامب ذلك، وأن تُحافظ «القوات اللبنانية» على زخمها السياسي للضغط داخليًا. هناك فرصة لا تتجاوز سنتين أو ثلاثًا قبل أن تتبدّل الظروف الدولية، ويجب استغلالها».
السيادة أفق المستقبل
يختم دو لا توكني حديثه بكلمة جامعة: «اليوم، السلاح اختفى من يد المسيحيين، وهذا تقدّم. ويبقى الهدف استعادة السيادة الكاملة تحت راية الجيش اللبناني وحده. السيادة الحقيقية لا تُبنى على السلاح بل على الشراكة والمواطنة. المسيحيون هم من دافع تاريخيًا عن هذه السيادة، لكنها لا تكتمل إلا بمشاركة المسلمين فيها على قدم المساواة. ومع ذلك، لا بد من الحفاظ على الخصوصية المسيحية لأنها عنصر أساسي من هوية لبنان ومنعته». ويضيف: «على الشباب اللبناني، أيًّا كانت انتماءاتهم، أن يتوحّدوا حول فكرة لبنان السيد. الخلافات المسيحية الداخلية يجب أن تبقى في الماضي. هذا البلد هو الاستثناء الوحيد في الشرق حيث لا يعيش المسيحيون في ذمّة أحد. إنها نعمة ومسؤولية في آن واحد». ثم يبتسم وهو يختتم: «قد يبدو كلامي مثاليًا أو فكريًا كما تقولين، لكنه نابع من حب عميق للبنان. بالنسبة إليّ، هذه ليست قصة حرب، بل قصة حضارة».




