سلايدات

في اتجاه مفاوضات لبنانية ــ إسرائيلية

كتب جوني منير في الجمهورية:

كانت معبّرة جداً العبارة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعليقاً على الإنتهاك الخطير لوقف إطلاق النار في غزة. فهو قال بشيء من الثقة، أن لا شيء سيهدّد وقف إطلاق النار، ومضيفا: «حركة حماس جزء صغير ضمن اتفاق الشرق الأوسط».

وجاء كلام ترامب ليؤكّد ما يجري تداوله همساً، أنّ الإطار الذي شملته التفاهمات والتسويات لتأمين وقف الحرب في غزة هو واسع ويضمّ الأطراف الأساسية في الشرق الأوسط، ومن ضمن هؤلاء إيران نفسها. ألم يذكر ترامب نفسه خلال وجوده في الكنيست الإسرائيلي ومن ثم مؤتمر شرم الشيخ، إيران وفي شكل إيجابي؟ أضف إلى ذلك، تلك الرسالة التي حملها الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، وأعلنها خلال إطلالته الأخيرة وفحواها: «لن نبادر للقتال، ولكن إذا اعتدى أحد علينا فعندها مسألة أخرى». وفُهم كلام قاسم بأنّه رسالة إيرانية مرنة وإيجابية. ومن جهته وصف ترامب «حماس» في الجزء الصغير، أي أنّ إطار التسوية أوسع وأكبر، ومن البديهي الإعتقاد بأنّ لبنان يشكّل جزءاً آخر من صورة التسوية الكاملة.

جاءت زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس للبنان مختلفة هذه المّرة عن زياراتها السابقة. فهي أتت بعد جولة لها مع وزير الدفاع الإسرائيلي على الحدود مع لبنان، وهي أيضاً وضعت مسافة فاصلة بينها وبين الإعلام اللبناني. فحجبت كاميرات التصوير ووابل أسئلة الإعلاميين، واكتفت بتوزيع صور جامدة، وبالبيانات الرسمية الصادرة بعد اجتماعاتها. والإنطباع الغالب هو أنّ المقصود من كل ذلك تجنّب ارتكاب الأخطاء، وهو ما أدّى إلى «تشظي» زياراتها السابقة بأخطاء كان من المفروض تجنّبها، خصوصاً أنّ لبنان دخل في مرحلة تفاوضية بالغة الدقة، وحيث يحسب فيها كل تفصيل أو إشارة. و«الدرع الواقي» من الإعلام اللبناني الذي لبسته أورتاغوس في بيروت، قد لا يكون هدفه الوحيد تجنّب استهدافات الإعلام «المعادي» فقط، بل ربما أيضاً النيران الصديقة. فخلال الأيام الماضية غلبت الفوضى على من يكون الطرف الفعلي الذي يتولّى إدارة الملف اللبناني ـ الإسرائيلي بإسم واشنطن. فقبل أيام، انبرى الموفد الرئاسي توم بّراك واتصل برئيس المجلس النيابي نبيه بري، حاملاً عرضاً بالتفاوض ووقف النار لمدة شهرين. وحين أطلع بري رئيسي الجمهورية والحكومة على تفاصيل العرض، حصل تفاهم لبناني يقضي بقبوله، لكن جاء جواب برّاك لاحقاً أنّ إسرائيل رفضت إقتراحه. وهذا ما ولّد دهشة لبنانية، إذ كيف لبرّاك أن يتقدّم بعرض لم يعمد للتمهيد له مسبقاً مع الإسرائيليين. لكن ومع شيء من التدقيق، تبين لاحقاً أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المستاء من برّاك بسبب الملف السوري، لم يشأ أن يمنحه هذا الدور، مفضّلاً عليه أورتاغوس التي تُعتبر من «عضام الرقبة» كما يُقال في اللغة العامية. وبعدما كان حضّر برنامجه لزيارة بيروت بعد مغادرة أورتاغوس، عاد برّاك وألغى هذه الزيارة. وغالب الظن أنّه «ذهب ولن يعود».

لكن ثمة وافداً أميركياً جديداً قد يطل عبر النافذة اللبنانية، وهو مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جويل ريبورن. فالضابط السابق الملمّ جيداً بملفات المنطقة والمصنّف في خانة الصقور، يضع أمام مكتبه ملفات شخصيات لبنانية مرشحة لإدراجها في لائحة العقوبات، وهو المؤمن بفعالية هذا السلاح. تكفي الإشارة إلى أنّ هذا المسؤول الأميركي الجديد كان قد لعب دوراً أساسياً في تطبيق «قانون قيصر»، وهو كان قد أدلى بشهادته عام 2020 أمام الكونغرس الأميركي، مؤكّداً أنّ الإجراءات التي اتُخذت ضدّ سلطة بشار الأسد «قرّبت الأهداف الأميركية من التحقق».

وبعد أيام قليلة سيصل السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى إلى بيروت، والذي تمّ الترويج لقدومه على أنّه في مرتبة «سفير فوق العادة»، وسيتولّى هو ملف التفاوض اللبناني ـ الإسرائيلي. ووفق ما سبق، يتبين وجود نوع من التنافس بين المسؤولين الأميركيين حول من يتولّى الإمساك بالملف اللبناني ـ الإسرائيلي، ولو أنّ الترجيحات تؤشر إلى شراكة عمل بين أورتاغوس وعيسى.

وبالعودة إلى جولة أورتاغوس الأخيرة في بيروت، فهي جاءت حاملة بين يديها ملفاً بعنوانين، وتمّ التمهيد له بالتلويح بالعودة إلى دورة العنف مجدداً. العنوان الأول، وهو المتقدّم ويتعلق بالمفاوضات بين لبنان وإسرائيل، أما العنوان الثاني فيتعلّق بموضوع سلاح «حزب الله». بالنسبة إلى العنوان الأول، فلقد بات معلوماً أنّ أورتاغوس حملت معها عرضاً للتفاوض المباشر بين لبنان وإسرائيل وهو ما رفضه لبنان، ولكنها رحّبت بمفاوضات غير مباشرة شرط تطعيم الوفدين بوجوه مدنية وديبلوماسية، وليس الإبقاء فقط على الوجوه العسكرية، وأن يكون ذلك من خلال فريق «الميكانيزم». وغادرت أورتاغوس ومعها ما يشبه القبول اللبناني بهذا المبدأ. وعلى رغم من التبريرات التي تُسوّق، فإنّ الإنطباع الغالب هو أنّ هذه المفاوضات غير المباشرة لن تلبث أن تنزلق في اتجاه مفاوضات مباشرة، ولو بعد فترة من الزمن. فالمفاوضات غير المباشرة المقترحة ستستنسخ مفاوضات الترسيم البحري، والتي جرت داخل مقر واحد، ولو أنّ التخاطب كان يجري من خلال الوفد الأميركي. كما أنّ الوفد اللبناني ضمّ يومها خبيرين مدنيين، الأول كان نجيب مسيحي المتخصص بقوانين البحار، والثاني وسام شباط عضو هيئة إدارة قطاع البترول في وزارة الطاقة. وبالتالي فإنّ المطروح الآن تنشيط لجنة «الميكانيزم» لتصبح هيئة للتفاوض، بعد تطعيمها بوجوه مدنية تراوح بين ديبلوماسيين كما تقترح واشنطن، أو بين خبراء تقنيين كما يتمسك لبنان حتى الآن، أي بإدخال خبير بترسيم الحدود وآخر بالقانون الدولي.

ذلك أنّ الجميع يعلم أنّ هذه المفاوضات ستتطور لتتولّى لاحقاً ملف تثبيت الحدود بين لبنان وإسرائيل. وهو ما يعني أنّها ستطاول لاحقاً موضوع مزارع شبعا، وذلك بعد حسم هويتها.

أما العنوان المتعلق بسلاح «حزب الله»، فهنالك مهلة إنهاء الوضع جنوب الليطاني، والتي حُدّدت قبل نهاية السنة الجارية. ولكن ثمة نقاشات جانبية تجري وتتعلق بالسلاح على كل الأراضي اللبنانية. وهنا جاءت زيارة رئيس المخابرات المصرية محمود رشاد، حيث تمّ استحضار ملف التسوية في غزة، وهو الذي شارك في ترتيبه، بسبب وجود وجوه شبه كثيرة بينه وبين ملف «حزب الله». وبدا أنّ زيارته لبيروت لم تكن مجرد مصادفة، لا بل أكثر من ذلك. وكشف في هذا الإطار عن مشروع قرار تتمّ كتابته لإقراره في الأمم المتحدة، ويتعلق بتثبيت الوضع في غزة، وأنّ هذا ما يمكن أن يحصل مع لبنان مستقبلاً. ومن هذه الزاوية بدا وكأنّ هنالك إمكانية لمقاربة ملف سلاح «حزب الله» إنطلاقاً من تسوية غزة. ففي هذا الإتفاق حصل اعتراف أميركي بحركة «حماس»، وهو تمثل بجلوس الموفدين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر مع خليل الحية. وفي السابق كان برّاك نفسه قد تحدث عن استعداد واشنطن للإعتراف بالجسم السياسي لـ«حزب الله». وكما أنّ تسليم سلاح حركة «حماس» تُرك للمرحلة الثانية وبعد انسحاب إسرائيل من خط أولي، فإنّ المطروح هنا أولاً الموافقة على الخطة بكاملها، كما حصل مع اتفاق غزة، قبل أن تبدأ إسرائيل بالتنفيذ عبر انسحابها من النقاط الخمس. وفي المقابل يتمّ التداول عبر القنوات الجانبية، في أنّ المطلوب هو السلاح الثقيل، أي من مستوى صواريخ «الكورنيت» ووصولاً إلى الصواريخ البالستية والدقيقة. صحيح أنّ البند المتعلق بالسلاح لم يتمّ بعد الدخول في تفاصيله، لكن مصادر ديبلوماسية أميركية اعتبرت أنّ جمع السلاح في أقرب وقت ممكن من شأنه تفادي تدهور أمني محتمل. وهو ما يعني أنّ الوقت ليس مفتوحاً، لا بل إنّ هامشه ضيق، وإنّ البديل هو ما يتمناه نتنياهو ومعه اليمين المتطرف. وفي هذا الإطار، أكّد ديبلوماسي معني، أنّ السلطة اللبنانية تسعى جيداً لتطبيق قرارها بحصر السلاح بيدها، لكن مع محاذرة الإصطدام بـ«حزب الله». وأنّ اعتمادها أسلوب الغموض إنما يهدف للحفاظ على الإستقرار والتماسك الداخلي.

وفي اتفاق غزة تشكيل قوة حفظ سلام دولية، وحيث تسعى دول عدة للإنخراط في عدادها، مثل تركيا (التي تعترض عليها إسرائيل) وأذربيجان وأندونيسيا وباكستان ومصر وبعض دول الخليج. وعلى رغم من وجود قائمة إخفاقات طويلة للقوات الدولية إلّا أنّ هذا لا يعني حتمية الفشل.

وفي لبنان، فإنّ إنهاء عمل قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) سيؤدي إلى وصول قوات أوروبية ستتولّى مهمّة مشابهة لقوة حفظ السلام في غزة. ولذلك مثلاً تريد القوة الفرنسية العاملة في «اليونيفيل» أن تكون آخر المغادرين، والمقصود هنا أن تشكّل حلقة الوصل ما بين انتهاء مهمّة «اليونيفيل» وبدء انتشار القوة الأوروبية والتي ستكون عمادها.

وهنالك حرص على إحاطة كل هذه الورشة بالسرّية المطلقة. فالمطلوب أكل العنب وليس قتل الناطور. وإذا كان الجزء المتعلق بغزة الذي وصفه ترامب بالجزء الصغير، يتقدّم ببطء وسط مخاطر كثيرة، فإنّ الجزء الصغير الثاني أي الجزء اللبناني، قد حان وقته للحل. وبالتأكيد فإنّ الجزء الأكبر من المشهد يقبع في طهران، والتي تخوض بدورها مفاوضات صعبة مع واشنطن حول النووي وغير النووي، وسط سرّية مطلقة.

وخلال الأيام الماضية، لفت انعقاد مؤتمر في تل أبيب جمع ممثلين عن أقليات دينية وقومية في الشرق الأوسط، ومن بينهم علويون ودروز وأكراد وأيزيديون وأشوريون. ونظّم المؤتمر الباحث في شؤون الشرق الأوسط إيدي كوهين، وهو في المناسبة لبناني المولد وينتمي إلى الجناح اليميني، وشاركه التنظيم ناشطون أوروبيون وأميركيون. كوهين قال إنّ الهدف هو تعزيز الحوار والتعاون بين الأقليات في المنطقة وبين إسرائيل، في ظل التحدّيات الأمنية والسياسية التي تواجهها هذه المجموعات في دولها الأصلية. وهي النظرية التي كانت ابتكرتها إيران في مراحل سابقة، لحماية تمدّدها الإقليمي. فهل هذا هو المشروع الكبير الذي يتحدث عنه ترامب للمنطقة، أم أنّ لإسرائيل رؤيتها وحساباتها المختلفة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى