غير مصنف

هل دخل “الثنائي الشيعي” مرحلة الانقسام؟

كتب زياد سامي عيتاني في اللواء:
برز في الأيام الأخيرة خلاف سياسي لافت (وان يكن بصمت) بين رئيس مجلس النواب نبيه بري وحزب الله، حليف حركة أمل التاريخي، حول مسألة التفاوض مع إسرائيل. هذا الخلاف الذي ظل لسنوات محصوراً في الكواليس، انكشف بعد بيان شديد اللهجة أصدره حزب الله في السادس من تشرين الثاني الحالي، رفض فيه بشكل قاطع أي شكل من أشكال التفاوض السياسي، معتبراً ذلك تهديداً للكيان اللبناني نفسه.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: من يحدّد مصلحة لبنان؟ وهل لحزب الله بعد كل التحوّلات في المنطقة ولبنان أن يبقى مصادراً القرار السيادي للدولة، ويمنعها من التفاوض حتى بشكل غير مباشر، بينما هو نفسه وافق ضمنياً على ترسيم الحدود البحرية قبل ثلاث سنوات؟

• لماذا الآن؟

جاء بيان الحزب في لحظة دقيقة، إذ طرحت الرئاسة اللبنانية فكرة التفاوض غير المباشر مع إسرائيل لإتمام الانسحاب من مناطق حدودية لا تزال موضع نزاع. هذه المبادرة أعادت إلى الواجهة تجربة ترسيم الحدود البحرية عام 2022، التي تمّت بوساطة أميركية، وشارك فيها نبيه بري بدور محوري، واعتبرها كثيرون نموذجاً ناجحاً للتفاوض غير المباشر.
لكن حزب الله، الذي وافق ضمنياً على ترسيم الحدود البحرية حينها، يبدو أنه يرفض اليوم تكرار النموذج في ملف الحدود البرية، وكأن السيادة البرية محرّمة على الدولة، بينما السيادة البحرية قابلة للتفاوض. هذا التناقض يطرح علامات استفهام حول منطق الحزب في تحديد ما هو «خطر وجودي» وما هو «مصلحة وطنية».

• بري: الواقعية السياسية في مواجهة الجنوح

قال الرئيس نبيه بري في مقابلة صحافية: «لا مفاوضات مباشرة مع إسرائيل ولا حرب أيضاً. لكن التفاوض غير المباشر ليس خيانة، بل هو وسيلة لحماية حقوق لبنان».
هذا التصريح يعكس موقفاً براغماتياً، يوازن بين رفض التطبيع المباشر وبين الانفتاح على أدوات دبلوماسية قد تساهم في تثبيت السيادة اللبنانية. بري، الذي لطالما لعب دور الوسيط بين الدولة والمقاومة، يبدو اليوم أقرب إلى منطق الدولة، في حين يتمسّك حزب الله بمنطق المقاومة المطلقة، حتى لو كان ذلك على حساب المؤسسات الشرعية.
في المقابل، فإن الحزب قال في بيانه الأخير: «نرفض الخضوع للابتزاز العدواني والاستدراج نحو تفاوض سياسي مع العدوّ الصهيوني على الإطلاق، فذلك ما لا مصلحة وطنية فيه وينطوي على مخاطر وجودية تهدّد الكيان اللبناني».
البيان، وإن لم يذكر بري بالاسم، حمل نبرة تحذيرية واضحة، واعتبر أن أي تفاوضا سياسيا مع إسرائيل هو بمثابة «نسف لدور المقاومة»، و«خضوع للمنطق الأميركي – الإسرائيلي». لكن ما لم يقله الحزب هو: من يقرر المصلحة الوطنية؟ وهل باتت المقاومة فوق الدولة، وفوق الدستور، وفوق المؤسسات؟

• الرئاسة اللبنانية: التفاوض حق حصري للدولة

في ردٍّ غير مباشر على بيان حزب الله، قال الرئيس اللبناني جوزاف عون: «قرار التفاوض من عدمه هو حق حصري للدولة اللبنانية، ولا يمكن لأي جهة أن تصادر هذا الحق أو تفرض رؤيتها على المؤسسات الشرعية».
هذا التصريح يعكس توتراً مؤسساتياً بين الدولة وحزب الله، ويضع الرئيس نبيه بري في موقع وسط بين الطرفين، إذ يحاول الحفاظ على علاقته بالحزب من جهة، وعلى موقعه كرجل دولة من جهة أخرى. لكن السؤال يبقى: إلى متى يمكن للدولة أن تبقى رهينة توازنات غير دستورية؟

• التباين بين بري والحزب

في العام 2022، لعب نبيه بري دوراً محورياً في التفاوض غير المباشر مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية، وهو التفاوض الذي تم بوساطة أميركية، واعتُبر إنجازاً وطنياً. حينها، وافق حزب الله ضمنياً على العملية، بشرط أن تبقى غير مباشرة، وأن لا تتضمن أي اعتراف بإسرائيل.
لكن يبدو أن الحزب يعتبر أن التفاوض في ملف الحدود البرية يختلف جذرياً عن ملف الغاز، إذ أن الأول يتعلق بالسيادة والمقاومة، بينما الثاني يتعلق بالاقتصاد والطاقة. وكأن السيادة قابلة للتجزئة، والمقاومة تُستدعى فقط حين تكون الدولة على وشك استعادة أراضيها.

• التباين السياسي

الخلاف بين بري وحزب الله لم يعد مجرد اختلاف في التكتيك، بل بات صراعاً بين منطق الدولة ومنطق الهيمنة. بري يتبنّى مقاربة واقعية تسمح بالتفاوض غير المباشر، بينما يرفض حزب الله أي شكل من أشكال التفاوض، معتبراً أنه يشكّل خطراً وجودياً على لبنان. لكن الحقيقة أن هذا الرفض المطلق هو ما يهدّد الكيان اللبناني، حين يُمنع من ممارسة حقه السيادي في التفاوض، ويُجبر على انتظار موافقة طرف غير دستوري.
من حيث شكل التفاوض، يقبل بري بالتفاوض غير المباشر، كما حدث في ملف الغاز، بينما يرفضه حزب الله رفضاً قاطعاً. أما المرجعية، فبري يستند إلى المؤسسات، بينما الحزب يستند إلى عقيدة جامدة، لا تعترف بالدولة إلّا حين تخدم خطابه.
اللافت أن هذا الخلاف يأتي بين طرفين يشكّلان ما يُعرف بـ«الثنائي الشيعي»، الذي حافظ لعقود على وحدة موقفه في القضايا الكبرى. لكن يبدو أن ملف التفاوض مع إسرائيل يضع هذا الحلف أمام اختبار جديد، خاصة أن بري يمثل صوتاً مؤسساتياً، بينما يمثل حزب الله صوتاً عقائدياً مقاوماً، يرفض أي مقاربة واقعية.
وفي هذا السياق، اعتبرت مصادر سياسية مطّلعة أن «الخلاف بين بري وحزب الله لن يتحوّل إلى أزمة، لكنه يعكس تبايناً في الأولويات، وقد يؤدي إلى إعادة رسم حدود الدور السياسي لكل طرف».
لكن الواقع يقول إن هذا التباين قد يتحوّل إلى أزمة وطنية، إذا استمر حزب الله في فرض فيتو على الدولة، ومنعها من ممارسة دورها السيادي، تحت ذريعة المقاومة.

• من يقرر مصير لبنان؟

الخلاف بين نبيه بري وحزب الله حول التفاوض مع إسرائيل يعكس عمق التحديات التي تواجه لبنان في مرحلة ما بعد الحرب، وفي ظل إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية. وبين منطق الدولة ومنطق اللادولة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يستطيع لبنان أن يفاوض من دون أن ينقسم؟ وهل يمكن للثنائي الشيعي أن يختلف من دون أن يتفكك؟
لكن السؤال الأهم: هل يمكن للدولة أن تستعيد قرارها، في ظل وجود طرف يرفض الاعتراف بشرعيتها، ويصادر حقها في التفاوض، ويهدّد كل من يخرج عن خطه؟
في انتظار الإجابات، يبقى بيان حزب الله الأخير مؤشراً على أن التوازنات القديمة لم تعد كافية، وأن لبنان يدخل مرحلة جديدة من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومفهوم الحزب للمقاومة، وبين الواقعية السياسية والعقيدة الثابتة، أو بين السيادة والهيمنة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى