سلايداتمقالات

عودة الرّياض إلى واشنطن بشروطها

شهدت واشنطن هذا الأسبوع مشهداً لافتاً في لحظة سياسيّة واقتصاديّة مضطربة. فبينما كانت الأسواق العالميّة تتفاعل مع الرسوم الجمركيّة الأميركيّة الجديدة على الصين وانخفاض أسعار النفط، وصل وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان إلى العاصمة الأميركيّة في زيارة تحمل ملامح مرحلة مختلفة في العلاقات بين البلدين.
لم يكن الاستقبال الرسميّ في البيت الأبيض، وما رافقه من لقاءات رفيعة المستوى، حدثاً بروتوكوليّاً فقط، فقد جاء في سياق ما يبدو أنّه إعادة تعريف لموازين النفوذ، إذ دخلت الرياض وواشنطن في حوار يتجاوز الملفّات التقليديّة، من الأمن إلى الاستثمارات والتقنيّات الناشئة، ضمن مقاربة تتّسم بالبراغماتيّة من الطرفين.

تحوُّل كبير

يرى مراقبون في واشنطن أنّ السعوديّة استفادت من أربعة عوامل متداخلة دفعتها إلى موقع تفاوضيّ أقوى خلال العام الأوّل من ولاية ترامب الثانية.

  • أدّت الرسوم الأميركيّة المرتفعة على السلع الصينيّة، إضافة إلى رسوم شاملة على الواردات، إلى ضغوط اقتصاديّة عالميّة انعكست على أسعار الطاقة. وفي ظلّ ركود الاستثمارات الدوليّة، وجدت واشنطن في السعوديّة شريكاً قادراً على ضخّ تمويل كبير في قطاعات تعتبرها الإدارة الأميركيّة أساسيّة لمشاريع “إعادة التصنيع” واحتواء الصين، مثل الذكاء الاصطناعيّ وسلاسل المعادن الحيويّة. هذا التقاطع بين حاجات الولايات المتّحدة ورغبة السعوديّة في توسيع استثماراتها الخارجيّة منح الرياض موقعاً تفاوضيّاً مؤثّراً.

تبدو إسرائيل أمام اختبار سياسيّ داخليّ سيزداد وضوحاً خلال العامين المقبلين، خصوصاً إذا استمرّت إدارة ترامب في التعامل مع ملفّ التطبيع من زاوية “الخطوات الفلسطينيّة” التي تطلبها الرياض

  • في خطوة فاجأت تل أبيب والدوائر التقليديّة في واشنطن، وافق ترامب على تزويد السعوديّة بطائرات F-35، متجاوزاً اعتراضات تتعلّق بـ”التفوّق العسكريّ النوعيّ الإسرائيليّ”. وللمرّة الأولى تُفصل صفقة أسلحة استراتيجيّة عن شرط التطبيع مع إسرائيل. وعلى الرغم من الاعتراضات المرتبطة بالتفوّق العسكريّ الإسرائيليّ، رأت عدّة دوائر في واشنطن في هذه الخطوة مؤشّراً إلى تغيير في منهج الربط التقليديّ بين التعاون الأمنيّ مع الرياض وملفّ التطبيع مع إسرائيل.

عبّر هذا التطوّر عن تحوّل في التفكير داخل الإدارة الأميركيّة أكثر ممّا عبّر عن تنازل سعوديّ، فالإدارة تبدو مستعدّة لإعادة تعريف بعض أولويّاتها في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظلّ التحدّي الصينيّ.

  • قبل الزيارة، دعمت واشنطن صياغة محدّدة في قرار مجلس الأمن 2803 تتضمّن إشارة إلى “مسار موثوق نحو تقرير مصير الفلسطينيّين ودولة فلسطينيّة”. وعلى الرغم من أنّ الصياغة عامّة ولا تحمل التزامات عمليّة، جاء إدراجها نتيجة نقاشات مع دول الخليج، وخصوصاً السعوديّة، التي بات ملفّ فلسطين جزءاً أساسيّاً من شروطها في أيّ مسار إقليميّ. بدت الصياغة محاولة أميركيّة لإظهار استعداد لتعديل إطارها السياسيّ من دون كلفة كبيرة، لكنّها حملت دلالات واضحة في سياق العلاقات مع الرياض.

في المقابل، تواجه إسرائيل وضعاً أكثر تعقيداً. تعتمد حكومة بنيامين نتنياهو على أحزاب ترفض أيّ خطوة تُقرأ كإحياء لمسار الدولتين، وهو ما يحدّ من قدرتها على التفاعل مع التحوّلات الأميركيّة–السعوديّة. ومع سعي الإدارة الأميركيّة إلى تحقيق اختراق بين الرياض وتل أبيب خلال السنوات المقبلة، قد تتحوّل إسرائيل لأوّل مرّة منذ عقود إلى الطرف الذي يتلقّى الضغوط بدلاً من أن يمارسها.

تشير أوساط في واشنطن إلى أنّ الأشهر المقبلة قد تشهد محاولة أميركيّة لاختبار حدود الموقف الإسرائيليّ، سواء عبر الحوار أو عبر مراجعة بعض المسارات العسكريّة والماليّة، في ظلّ رغبة ترامب بإبرام اتّفاق إقليميّ واسع قبل نهاية ولايته.

  • تراجع التهديد الإيرانيّ بعد الضربات القاسية التي تلقّاها البرنامج النوويّ الإيرانيّ وهزيمة المحور الذي قادته طهران، وهو ما أدّى إلى التخفيف من احتمالات صدام مباشر مع إيران يتطلّب حماية أميركيّة.

بينما تستعدّ المنطقة لمرحلة جديدة، يبدو أنّ السنوات المقبلة ستشهد تفاعلات أعمق بين هذه التحوّلات، سواء على مسار التطبيع، أو في علاقة الولايات المتّحدة بإسرائيل

المملكة تستثمر اللّحظة

عاد وليّ العهد السعوديّ من واشنطن بمجموعة تفاهمات تمتدّ من التعاون العسكريّ إلى الاستثمار والتقنيّة، إضافة إلى تقدّم في صيغ التعاون الأمنيّ والحوار النوويّ المدنيّ. جرى كلّ ذلك من دون أيّ التزامات سعوديّة مباشرة تجاه التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يعكس رغبة الطرفين الأميركيّ والسعوديّ في إبقاء الباب مفتوحاً من دون التزام مسبق.

في المقابل، تبدو إسرائيل أمام اختبار سياسيّ داخليّ سيزداد وضوحاً خلال العامين المقبلين، خصوصاً إذا استمرّت إدارة ترامب في التعامل مع ملفّ التطبيع من زاوية “الخطوات الفلسطينيّة” التي تطلبها الرياض.

في سياق أوسع، تشير الزيارة إلى أنّ العلاقة الأميركيّة–السعوديّة لم تعُد تدور فقط حول النفط والسلاح، بل باتت جزءاً من تحوّل أكبر في حسابات واشنطن الاستراتيجيّة تجاه الصين، وفي طموحات الرياض الاقتصاديّة والتكنولوجيّة.

تكشف زيارة الأمير محمّد بن سلمان أنّ العلاقة الأميركيّة–السعوديّة انتقلت إلى طور جديد: طور لا تحكمه الخطوط الحمر القديمة، ولا يعتمد على “طلبات” أميركيّة و”استجابة” سعوديّة، بل على مفاوضات متكافئة تقريباً بين طرفين يتحرّك كلّ منهما وفق مصالحه: واشنطن تحتاج إلى الرياض اقتصاديّاً واستراتيجيّاً، والرياض تعرف جيّداً كيف تستثمر هذه اللحظة.

بينما تستعدّ المنطقة لمرحلة جديدة، يبدو أنّ السنوات المقبلة ستشهد تفاعلات أعمق بين هذه التحوّلات، سواء على مسار التطبيع، أو في علاقة الولايات المتّحدة بإسرائيل، أو في موقع السعوديّة داخل النظام الإقليميّ المتغيّر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى