سلايدات

بابا السلام وقدّيس لبنان… وجهاً لوجه

كتبت ديزي حوّاط في نداء الوطن:

استكمالًا لزيارات البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، شكّل اليوم الثاني محطة روحية بالغة الأهمية، إذ اختار أن يبدأ نهاره من دير مار مارون – عنايا، هذا الصرح الذي يحمل رمزية روحية عميقة للبنان بأسره، حيث ضريح القديس شربل الذي يجمع حوله اللبنانيين من مختلف الأديان والمغتربين والمؤمنين من كل أصقاع العالم.

منذ ساعات الفجر الأولى، بدأت وفود المؤمنين تتجمع انطلاقًا من محيط كنيسة مار جرجس وصولًا إلى الطرقات المؤدية إلى الدير. وعلى الرغم من البرد القارس الذي لفّ المنطقة، توافد الناس بكثافة غير مسبوقة، حاملين الأعلام والصور ينتظرون اللحظة التي تمرّ فيها السيارة البابوية الـ Papamobile، مصوّبين الهواتف لتوثيق لحظة ربما لن تتكرر إلّا حتى انتخاب بابا جديد.

وصل رئيس الجمهورية جوزاف عون برفقة السيدة الأولى نعمت عون، وعدد من فعاليات المنطقة، إضافة إلى فعاليات روحية وجمهور من أبناء الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، يتقدمهم البطريرك مار بشارة بطرس الراعي.

وانطلقت زيارة البابا من طرقات جبيل، حيث ظهر واقفًا في الـ Papamobile، ملوّحًا للمؤمنين الذين انتظروه لساعات تحت المطر على مسار وصوله إلى الدير. وعلى جانبيّ الطريق، انتشر عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي والدفاع المدني والصليب الأحمر، في تنظيم محكم أتاح للحشود الكبيرة عيش هذه اللحظة بأمان.

“على أرض القداسة… ماذا تعني لكم هذه الزيارة؟”، هو السؤال الذي رددناه مرارًا ونحن نرى العائلات، الأطفال، الشيوخ، والرهبان يتسابقون ليقتربوا قدر الإمكان من الموكب البابوي.

ومن بين الحشود، برز صوت الذين جاؤوا من أماكن بعيدة وبظروف صعبة: من تحدّوا المطر ومشقة الطريق والاكتظاظ، ولم يتذمّروا معتبرين أن رؤيته، ولو للحظة، تمنحهم بعض الطمأنينة، وأنهم يواكبون لحظة روحية تاريخية.

وفي لحظة وصوله إلى باحة الدير، هطلت الأمطار بغزارة، كأن الطبيعة نفسها أرادت أن تمنح الحدث بعدًا إضافيًا من القداسة. تقدّم البابا نحو ضريح القديس شربل، جثا على ركبتيه، في مشهد صامت هز قلوب آلاف الواقفين في الخارج، على وقع الألحان السريانية المارونية، قبل أن يضيء شمعة مباركة قدّمها للدير.

وفي كلمته، أشاد بحياة القدّيس شربل الذي عاش متواضعًا وصامتًا بعيدًا من الأنظار، ليعلّم الصلاة والصمت والتواضع والفقر، مشبهًا إرثه بالماء العذب في صحراء العالم. ودعا إلى السلام ووحدة الكنيسة، وأوكل لبنان وشعبه إلى حماية القدّيس شربل، مؤكّدًا أن حياته تُلهم المؤمنين لعيش الإيمان بفرح على خطى المسيح.

كما تلقى البابا هديّة رمزية: أول طبعة من كتاب المزامير من العام 1610 قدّمها له الرئيس العام للرهبانيّة، إضافة إلى شمعة مسكوبة تحمل شعار البابا وقنديل يحتوي ماءً يرمز إلى أعجوبة القدّيس شربل حين أضاء القنديل بالماء بدل الزيت. وختم الحبر الأعظم الوقفة الروحية بمنح الحاضرين بركته قبل الانتقال لزيارة متحف الدير والتعرف إلى محتوياته.

الطريق المؤدي إلى الدير امتلأ بالآلاف من المؤمنين الذين أتوا من البقاع، أعالي جبيل، كسروان، الشمال، والجنوب، إضافة إلى مغتربين وصلوا خصيصًا إلى لبنان ليعيشوا هذا الحدث التاريخي. تسلّق البعض المدرجات الطبيعية والتلال المحيطة بالدير ليتمكنوا من رؤية الموكب، غير آبهين بالمطر أو الرياح الباردة.

الأطفال كانوا الأكثر حماسة، منهم من انتظر طويلًا، يطرح الأسئلة بلا توقف، ومنهم من رفع صوره أو لوّح للبابا الذي لم يتردد في الرد بابتسامة أو إشارة مباركة. أما الموكب البابوي، فكان ضخمًا ومنظمًا، يضم وحدات أمنية وسيارات مرافقة.

في عنايا، اليوم (أمس)، لم تكن الزيارة مجرد محطة من برنامج حافل، بل كانت حدثًا وطنيًا وروحيًا مؤثرًا. إنها زيارة أعادت توحيد الناس حول الإيمان ورمزية القديس شربل، ورسخت في القلوب قناعة بأن لبنان، رغم أزماته، ما زال أرضًا يليق بها أن تستقبل بركة من هذا الوزن.

ومع مغادرة البابا الدير، بقيت النظرات شاخصة نحوه، وعادت وهطلت الأمطار… كأنها تغسل القلوب لتستقبل مرحلة جديدة قد تحمل رجاءً وسلامًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى