كتب رفيق خوري في نداء الوطن:
كما في مجلس الامن الدولي كذلك في لبنان المتداعية دولته: لعنة الفيتو تضرب الحقائق والحقوق. المجلس محكوم بالشلل في معالجة أية أزمة “تهدد الأمن والسلم الدوليين” إذا كانت واحدة من الدول الخمس صاحبة حق الفيتو طرفاً فيها. وأبرز مثال أمامنا هو غزو روسيا لأوكرانيا الذي يقترب من إكمال عامه الأول في التدمير والتجويع والقتل من دون أفق للنهاية. و”جمهورية الفيتو” هنا تدار بإصبع مرفوعة تمنع أي حل يوقف الإنهيار السياسي والمالي والإقتصادي والإجتماعي قبل الحديث عن الإنقاذ والتعافي. فيتو يجعل جلسات الإنتخاب الرئاسي مهزلة وأوضاع الناس والبلد تراجيديا إغريقية. وفيتو يعطل التحقيق في جريمة العصر، وهي تفجير مرفأ بيروت وتدمير نصف العاصمة، ويمنع حتى ترتيب امر عادي مثل كسر العتمة بساعتين أو ثلاث من الكهرباء.
ولا مكان للسياسة بمعناها الحقيقي كفن إدارة شؤون الناس في جمهورية الفيتو. وحيث لا سياسة، لا دولة ولا إقتصاد. مجرد ثرثرة وتراشق بالتفاهة والحقد والمصالح الصغيرة. ولا جمهورية حيث لا رئيس. وكل محاولات التذاكي والبحث عن مخارج والدوران حول الشغور الرئاسي هي تمارين في العبث. وكل تفتيش عن ترتيب بديل هو أزمة إضافية فوق الأزمات العميقة. والأفظع هو أن الإستعصاء الرئاسي ليس بسبب العزم على إختيار رئيس إنقلابي على التركيبة السياسية الحاكمة والمتحكمة بل رئيس ضمن صدام المصالح داخل التركيبة نفسها. وهي تركيبة خرجت من قعر البرميل الطائفي والمذهبي وفرضت أسوأ المفاهيم في إدارة البلد.
ذلك أن التجربة الواقعية لمرحلة ما بعد الطائف أعادت تأكيد صعوبة الإنتقال الى دولة المواطنة المسماة دولة مدنية. لكن أصحاب الأحلام تصوروا أن الحد الأدنى الممكن هو قيام دولة أرقى من الطوائف، بمعنى أن ترسل كل طائفة الى السلطة أفضل ما لديها من مواهب وكفايات ورؤى ونزاهة. وما حدث هو إدارة دولة دون مستوى الطوائف التي أرسلت الى السلطة أهل العصبيات لا أهل العصب الوطني. وليس ترك البلد يكمل إنهياره من دون أن يكون أي طرف قادراً على وراثته والإمساك به سوى جريمة إضافية تحمل كل معاني السادية والأنانية تحت قناع المبادئ والمشاريع الواسعة.
خلال الأزمة المالية العميقة التي ضربت أميركا والعالم عام 2008 كتب فرانسيس فوكوياما مقالاً في “فورين أفيرز” رأى فيه “أن الأزمات الأخيرة هي نتاج الرأسمالية المالية التي لا ضابط لها”. لكن المفارقة التي سجّلها هي “إرتفاع موجة اليمين الشعبوي بدل موجة اليسار”. والسبب هو “فشل الأفكار لدى اليسار الذي لم يجد بديلاً من فشل اليمين الليبرالي سوى العودة الى النموذج القديم”. والمفارقة نفسها في لبنان. معاناة الأزمات الخطيرة التي صنعتها التركيبة السياسية لم تدفع الضحايا الى التصويت للبديل منها بل الى إعادة الإعتبار إليها والتمسك بها. ومتى؟ بعد ثورة رفعت شعار: “كلن يعني كلن”.
“التحدي هو القوة الوحيدة للضعيف” كما قال آرثر شنتزلر. والتحدي أمامنا هو أن نمارس هذه القوة.