كتب منير الربيع في المدن:
كان انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 حلقة من ضمن سلسلة انفجارات متتالية وخطرة، بعضها ذات طابع أمني وعسكري قاتل، وبعضها الآخر ذات بعد مالي ومؤسساتي. لم تعد الانهيارات المتوالية عبارة عن انهيارات سياسية أو مالية أو أمنية. وقد تجاوزت أيضاً مسألة انهيار مؤسسات الدولة. ما يحصل لبنانياً يؤشر إلى انهيارات وتصدعات في بنية الكيان. إذ أن كل المرتكزات التي قام عليها هذا الكيان تتفكك وتؤول إلى الانهيار.
انفجار الصراع
بالعودة بالذاكرة إلى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، بعد تفجير المرفأ، فإن وقعها كان منح الطبقة السياسية مزيداً من الأوكسيجين الذي أنقذها. لكن تلك الطبقة لم تنجح بالقيام بأي إجراءات، فيما استمر الصراع على المغانم إلى أن تأكل الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية بعضها البعض. في المقابل، فإن الصورة الأميركية في تقديم الدعم المالي والأمني للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، لا بد أن يكون لها مؤشرات أساسية، لا سيما أن هاتين المؤسستين لم يكن بحقهما أي ادعاءات من قبل البيطار في تفجير المرفأ، وهما غير ملاحقتين بأي قضايا، بخلاف الوضع في مصرف لبنان، والذي تطال العقوبات بعض الشركات المالية التي تعمل لصالحه، وبالتعاون معه، في المضاربات المالية وتجميع الدولارات.
إنها المرّة الأولى التي ينفجر فيها الصراع القضائي في لبنان بهذا الشكل وإلى هذه الحدود. صراع بين محقق عدلي ومدعي عام التمييز. اتخاذ قرارات قضائية من قبل المحقق العدلي ولا يتم تنفيذها.. كل مؤشرات التفكك هذه تثبت أن الانهيار لن يقف عند هذه الحدود، إنما سيؤدي إلى إدراج هذه السلطة في سياق إعادة الهيكلة، كما هو الحال بالنسبة إلى القطاعات الأخرى. لذلك، فإن هذا الصراع القضائي القائم لن يقف عند حدود المزيد من تضييع التحقيقات. والسياق الذي حصل أبرز مؤشر، من إطلاق سراح الموقوفين، والادعاء على البيطار مقابل رفضه تسليم الملف، وصولاً إلى السعي لإقالته وتنحيته عن ملف المرفأ في اجتماع مجلس القضاء الأعلى.
مصير البيطار والتحقيق
هنا لا بد من طرح سؤال أساسي حول كيفية إقدام البيطار على هذا القرار. وهل أن “تكبير الحجر” باستدعاءاته كان فخاً قد وقع فيه، ويستدعي رد فعل من خلال تكتل غالبية القوى ضده، فتعمل على إطلاق سراح الموقوفين، لا سيما أن هناك مطالب خارجية كانت واضحة في ضرورة إطلاق سراح البعض منهم، فيتم إرضاء الخارج، مقابل لجوء القوى الداخلية بالتكافل بين القضاء والضابطة العدلية والقوى السياسية على تحييد البيطار عن الملف أو “قبعه”؟ وبذلك يكون الملف قد وضع أدراج النسيان والتعطيل. علماً أنه قبل لجوء محكمة التمييز إلى قراراتها، كان من المفترض أن يستمر البيطار إلى حين إصداره لقراره الظني أو الإتهامي من دون تنفيذ أي مذكرة قضائية. وبعدها يتنحى عن الملف ويغادر لبنان إلى باريس.
وفي ظل كل ما يجري، ليس بالضرورة الإرتكاس إلى نظرية المؤامرة، وأن هناك من يحرك كل رقع الشطرنج هذه، والتي تؤدي إلى قلب الطاولة ككل.. إنما كل ما يجري هو نتاج لمسار طبيعي من الانهيار، وسط تعثر كل محاولات تأجيله.
وليس بالضرورة أن يكون لبنان يتعرض لمؤامرة، إنما هناك طبقة سياسية وشبكة مصالح متعددة مستعدة للتآمر على منع إجراء أي اصلاح مالي واقتصادي، أو كشف حقيقة ما جرى في انفجار المرفأ. وبالتالي، المؤامرة داخلية أيضاً في عدم الذهاب إلى أي اجراءات إصلاحية في مقابل الدفاع عن منظومة المصالح.
المصالح الخارجية
رد الفعل الأميركي أو السعودي تجاه لبنان منذ العام 2005 إلى اليوم، وتحديداً في آلية التعامل مع احداث السابع من أيار، كانت تنطلق من نقطة أساسية، وهي أن لبنان يشكل نقطة تقاطع لنظام مصالح عربية أوروبية أميركية. أما اليوم فهناك من يعتقد بأن نظام المصالح تراجع إلى حدود صفرية. وبالتالي، لم يعد هناك من يمنع المغامرة بترك البلاد تذهب إلى الانهيار الشامل والكامل، من دون أي تدخل فعلي خارجي. وهنا بالتحديد يمكن أن تكون المعايير الأميركية والسعودية في عدم إبداء الاهتمام والتدخل التفصيلي. هذا يختلف بشكل كامل عن المسار الفرنسي الذي يبدو مندفعاً، لأنه لا يزال مرتبطاً بنظام المصالح أو بالسعي لإعادة تركيبها، سواءً بما يتعلق بالمرفأ والاستثمار في إعادة إعماره وتشغيله، أو في القطاع المصرفي والقطاعات الصحية والتربوية، بالإضافة إلى ملف النفط والغاز.
لذلك، لا تزال باريس مهتمة، بينما واشنطن عندما كانت لديها مصلحة استراتيجية تتعلق بملف الترسيم دخلت على الخط، وعملت على إنجاز هذا الملف، ومن ثم انكفأت. أما بالنسبة إلى السعودية، فإن موقفها وشروطها معروفة، وبالتالي هي ليست مستعدة للدخول والانخراط حالياً في الأوحال اللبنانية، قبل نضوج الظروف التي توفر منطق المصالح المشتركة.
كل هذه الوقائع، تبعد لبنان عن اعتباره ورقة ضغط إقليمية أو دولية على الأوروبيين وعلى الدول العربية، إذ أنه في فترة ما قبل العام 2015 كان حزب الله يلجأ إلى التصعيد والتوتير للإمساك بالأوروبيين والخليجيين من الأيدي التي تؤلمهم. أما حالياً، فإن كل التحديات اختلفت، وقد سحبت تلك الدول أيديها من لبنان بشكل لم يعد بالإمكان الإمساك بها لإيلامها أو لاستدراجها إلى التفاوض.
في المقابل، فإن التصور الذي يمكن استنتاجه حالياً من كل ما يجري، هو ممارسة المزيد من الضغوط على وقع التوظيف والاستثمار السياسي لكل ما يجري، بغية فرض وقائع سياسية جديدة تقود إلى إنجاز تسوية فيما بعد.