سلايداتمقالات

من «بونزي» إلى البونزيين

كتب الدكتور لويس حبيقة في إفتتاحية اللواء:

في ظل الظروف الضاغطة دولياً، تطل علينا بوتيرة سريعة وجرأة منقطعة النظير مجموعة البونزيين، أبناء وبنات تلك المدرسة الشهيرة التي أسسها «تشارلز بونزي» في القرن ما قبل الماضي. ولد بونزي في مدينة لوغو في ايطاليا في 3\3\1882 ضمن عائلة ميسورة لكنها لم تكن غنية. أرادت والدته أن يصبح محاميا أو قاضيا وهو الولد الوحيد للعائلة. مسيرة تشارلز «المحتال» العالمي المعروف، كانت شاقة طويلة وصعبة وكانت له جولات مع النجاح والفشل أدت به في آخر المطاف الى الموت فقيرا في البرازيل بعد معاناة قاسية مع المرض. مسيرة بونزي كانت فاشلة ولها ليس فقط دروس سلبية وانما أيضا رسائل ايجابية يحاول العالم التعلم منها. بونزيي اليوم الموجودين في القطاعات المالية والمصرفية هم أكثر دهاء واحتيالا ويحاولون تحقيق الثروات الكبيرة بسرعة عبر التقنيات الجديدة ولا تهمهم أعداد الضحايا التي تقف في وجههم. بونزيي اليوم هم أكثر عنفا وقساوة من مستر بونزي نفسه.
كان الميراث الذي حصل عليه بونزي من والده متواضعا. بونزيي اليوم ربما يأتون أكثر من مجتمعات غنية تريد زيادة ثرواتها بسرعة وبكل الطرق. ذهب تشارلز الى الجامعة في روما وألتقى طلابا من عائللات غنية وحاول نسخ تجربتهم في العيش والانفاق، وهذا ما خلق له مشاكل مادية ونفسية معقدة. حتما كانت النتيجة الفشل في الدراسة والمعيشة، وبالتالي اضطر لمغادرة روما. في عمر الـ 21 أي في 3\11\1903 غادر الى بوسطن وكان هدفه تحقيق الثروة في أميركا بأسرع وقت والعودة الى ايطاليا للتمتع بها. كانت السفرة البحرية شاقة في كل شيء وخاصة من ناحية الطعام التي كانت نوعيته سيئة. وصلت الباخرة الى بوسطن في 17\11 وكان تشارلز مفلسا ولم يكن يجيد الانكليزية مطلقا. تنقل بين المدن الأميركية وتعلم اللغة بسرعة وهو الشاب الذكي الطموح وبدأ يبحث عن وظيفة محترمة مناسبة تصله الى هدفه.
ذهب بعدها الى كندا وتوظف في مصرف ايطالي حيث بدأ التفكير في مخططه. أفلس ذلك المصرف وذهب المدير «تشارلز بونزي» الى السجن لمدة 3 سنوات أمضاها في مونتريال. بسبب حسن تصرفه في السجن خفضت العقوبة الى 20 شهرا. الفشل في كندا دفعه الى محاولة العودة الى أميركا، لكن شرطة الحدود أوقفته وعاد الى السجن لمدة سنتين في أتلانتا، والأسباب هنا قانونية مرتبطة بقوانين الهجرة والتنقل. تعلم في السجن أن النظام القضائي الأميركي يتعاطف مع السجناء الأغنياء، وهذا ربما حال العديد من الأنظمة مما ساهم في دفعه مجددا الى تحقيق الثروة لكن بطريقة شرعية كما قال. لا يريد العودة الى السجون وكانت الأربع سنوات التي أمضاها فيها كافية له تماما. كانت له أعمال انسانية قدرت له وحازت على اعجاب من يعرفه.
بدأ عندها تشارلز بتنفيذ مخططه عبر جذب المال وتحقيق الثروة للمستثمرين في شركته. قال بونزي للمستثمرين أن عندهم خيارا من اثنين، أي توظيف المال في مصرف والحصول على 5% في السنة أو اعطائه لبونزي ليستثمره والعائد50% تراكمي لكل 45 يوم. هذا يعني أن استثمار الـ 100$ مع تشارلز يصبح 2500$ بعد سنة و65000$ بعد سنتين. فأياً منهما تختارون وما اختار ألوف المستثمرين وقتها؟ حتما عرض بونزي الذي فاز بسرعة ودون أي منافسة تذكر. كان تشارلز يستعمل الاستثمارات الجديدة لتسديد الديون القديمة وهكذا استطاع خلق مخططه الذي أمكنه من الاغتناء بسرعة لكن لكل شيء نهاية ولا بد للمخطط من أن ينفجر في أي وقت وهذا ما حصل.
كان عليه أن يعترف بالخسارة والغش ويعيد ما تبقى من أموال الى أصحابها ويترك للخاسرين والضحايا والقضاء محاسبته بالطرق الشرعية المناسبة. لكن تشارلز كان يعتقد أن بامكانه أن يخرج سليما اذا كان الوقت كافيا للمعالجة. لم يكن الوقت كافيا فاضطر لبيع منزله لتسديد الديون، كما وضع محتويات المنزل في المزايدات التي سمحت بالحصول على أموال كبيرة وإن لم تكن كافية.20 ألف مستثمر حصلوا على 37.5% من أموالهم وانتقلوا الى محطات أخرى في حياتهم. ذهب بونزي الى السجن وخرج بعده ليطرد من أميركا الى ايطاليا في 7\10\1934 لأنه لم يكن يحمل الجنسية الأميركية وكان في ال 52 من عمره.
في سنة 1939 غادر الى البرازيل لاستلام فرصة عمل في شركة طيران ايطالية. مرض وذهب الى المستشفى لقضاء ما تبقى من أيام. على فراش المستشفى قال «سرقت بول لاعطاء بيار» وهذا أكثر ما يعرف به. توفي في 17\1\1949 من جلطة دموية في الدماغ وكان عمره 66 سنة ومعه فقط 75$ كافية وقتها لتسديد تكلفة الدفن في البرازيل. مخططات بونزي تمارس اليوم في القطاعات المالية والمصرفية والنقدية بالرغم من وعي المجتمعات أكثر والتعلم من تجارب الماضي. فما الذي يسمح بنجاحها خاصة وأن الحقيقة المرة لا بد وأن تظهر عاجلا أم آجلا؟
أولا: هنالك الطمع والرغبة في المخاطرة والنجاح السريع غير المتعب “animal spirit”. يعتقد الانسان أن ما حصل مع غيره لن يحصل معه وبالتالي يغامر.
ثانيا: هنالك فقراء يحاولون التعلق بشعرة بونزي لتحقيق الثروة للانفاق على أنفسهم وعلى عائلاتهم. هنالك من ينجح لكن لا بد للشبكة من أن تسقط في النهاية.
ثالثا: هنالك من يدخل في مخطط بونزي عن جهل لقواعد السلامة المالية والاستثمارية ويثق بمن يغشه وبالتالي يخسر ما عنده. يتعلق المستثمرون بالأمل والأحلام دون دراسة أو تقييم العروض المقدمة، فيخسرون في نهاية المطاف. ربما يربح فقط من يخرج من المخطط في المراحل الأولى، لكن الطمع عموما يتغلب فتأتي معه الخسائر والأوجاع والعذاب والندم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى