كتب عقل العويط في النهار:
مبادرة نوّاب 17 تشرين لا تَتَوَقحن على أحد، ولا تستفزّ أحدًا، ولا تتذاكى، أو تتنمّر على أحد. وهي لا تبتزّ أحدًا (باعتبار أنّ تكتّل نوّاب المبادرة قد يكون بيضةَ قبّان في تعداد الأصوات)، ولا تقدّم امتحانًا عند أحد (قد يستشعر في نفسه القوّة والغلبة)، ولا تطلب رضا أحد، لا في الداخل ولا في الخارج.
لكنّها واضحةٌ ودقيقةٌ و… صارمة.
فهي، إذ تترفّع عن الوقاحة والاستفزاز والتحدّي والابتزاز والتشاوف والمساومة واستعراض القوّة والبهورة والسلبطة وترجّي البركة واستخدام القسوة اللفظيّة وإطلاق الشعارات المدوّية ورفع الشروط والشروط المضادّة، لا “تتورّع” عن توجيه الرسائل الواضحة والدقيقة والصارمة والحاسمة إلى الجميع، في الداخل والخارج: لبنان الدولة (لا الدويلة والدويلات) والمؤسّسات والقانون والدستور والقضاء المستقلّ، هو أوّل وأوّلًا، لا لبنان المرتهن ولا لبنان الشروخ والاصطفافات العموديّة القاتلة ولا لبنان الفوضى والإرهاب والسلاح غير الشرعيّ والفلتان والإفلاس والجوع والمرض والتشرّد والتهجير والهجرة واليأس.
أمّا رئيسه المطلوب في عرف المبادرة، مبادرة نوّاب 17 تشرين، فهو الرئيس الأوّل وأوّلًا، وهو تاليًا “لبنانيٌّ” شكلًا ومضمونًا وأوّلًا وأخيرًا، وليس منتهِكًا دستورًا، ولا ناكثًا بقَسَم، وليس ذمّيًّا ولا تابعًا ولا دميةً ولا حجرَ شطرنج ولا راكعًا ولا متلقّيًا أوامرَ ولا خاضعًا لأوامرَ ولا تاجرًا ولا مساومًا ولا متنازلًا ولا “خيخةً” ولا “ممودرًا” ولا متورّطًا ولا فاسدًا ولا ناهبًا ولا شريكًا في صفقة ولا متهاونًا في سيادةٍ أو كرامةٍ أو في حدودٍ أو في استقلالٍ أو في ديموقراطيّةٍ وحرّيّة.
الباقي، على أهمّيّته، تفاصيل. باقي المبادرة، على أهمّيّته، تفاصيل. أكرّر: تفاصيل (على أهمّيّته).
علمًا أنّي لستُ مغرمًا بنصّ المبادرة الطويل، ولا بالإنشاء الفخم الذي قد يكون يطرّز بعض أسلوبه، ويُستغنى عنه بسهولة. لكنّ المبادرة لا تضيّع الشنكاش، وهي لا تتغاوى أمام أحد، ولا تُغوي أحدًا، ولا تقدّم أوراق اعتماد عند أحد.
علمًا أنّ نوّاب 17 تشرين – بالجملة و/أو بالمفرّق – ليسوا “معقّدين” من أحد، وليس عندهم “عقدة نقص” حيال أحد.
لو عادت المبادرة إليَّ، لحذفتُ منها ما استفاض، ولأضفتُ إليها ما لم يتمّ التطرّق إليه إلّا رمزيًّا ودلاليًّا وإيحائيًّا. من مثل: تدبيج مسوّدةٍ لاتّفاقٍ سياسيٍّ داخليٍّ ينظّم – تكرارًا ومجدّدًا – آليّات عمل السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والإداريّة (الواضحة جدًّا في الدستور)، و”ينتزع” الاحتضان الدوليّ والأمميّ والاغترابيّ له. تاليًا، كيف سيكون الرئيس المنتخب رئيسًا واحدًا وحيدًا أحدًا، فوق الرؤساء، وفوق الأحزاب والتيّارات والطوائف والمذاهب؟ ماذا سيفعل بمسألة رئيس مجلس النوّاب المفتوحة رئاسته على التجديد وإعادة التجديد إلى تقريبًا “أبد الآبدين”؟ ماذا سيفعل بمسألة تكليف رئيس الحكومة ولا زمنيّتَي التأليف وتصريف الأعمال؟ وماذا سيفعل – مثلًا – بمسألة سلاح “حزب الله” ودولته القائمة ضمن الدولة، والقائمة مقام الدولة؟ بمسألة التهريب الحدوديّ؟ بمسألة الترسيم البحريّ (الشماليّ أيضًا)؟ بمسألة الفلتان الأمنيّ؟ بمسألة الجوع؟ بمسألة الانهيار الماليّ؟ بمسألة تحلّل المؤسّسات والبنى الدستوريّة والإداريّة وتفكّكها؟ بمسألة العلاقات مع الدول العربيّة؟ مع النظام السوريّ مثلًا؟ مع دول الخليج عمومًا؟ مع السعوديّة تحديدًا؟ ومع إيران تحديدًا؟ وماذا سيفعل بكتاب الدستور وببنوده في ما يتّصل بمسألة العلاقة الدستوريّة والقانونيّة بين رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء؟ وأيّ إطارٍ دستوريّ عملانيٍّ فوريٍّ ومباشر سيحكم هذه العلاقة، وسيحلّ الإشكالات التي تطرأ في كلّ حين، وأمام كلّ موضوع، كي لا يتعطّل عمل المؤسسات، على ما شهدنا خلال العهود الماضية، وعلى ما شهدنا ونشهد خلال هذا العهد، ممّا لم يعرف لبنان له مثيلًا في تاريخه منذ الاستقلال؟ وماذا سيفعل بما لم يُطبَّق من اتّفاق الطائف؟ وبما طُبِّق منه مشوَّهًا؟
ثمّ، ألا يجدر بالمرشّح الرئاسيّ أن يقدّم فريق عمله ومستشاريه، بأعضائه وخبرائه وعقلائه وحكمائه؟
أحتضن، بصفتي مواطنًا، “جوهر” هذه المبادرة و”مبتغاها”، ولا أتحدّث عن رافضيها في المطلق، ولا عن سيّئي النيّة حيالها. لكنّ كثيرين من ذوي النيّات الطيّبة والحسنة، فضلًا عن أوادم متزمّتين و”نئزانين” (متوجّسين) و”متحسّسين” (من حساسيّة) و”مستريبين” (من ريبة)، أقاموا (وسيقيمون) الدنيا ولم (ولن) يُقعِدوها، وهم يعيّرون هذه الجملة أو تلك، ويبحثون عن علّةٍ هامشيّةٍ في النصّ، عن إبرةٍ واحدةٍ في القشّ، وعن شعرةٍ واحدةٍ في العجين (لا شعرة واحدة في هذا العجين)، كان يُستحسن تفاديها، ممّا قد يفضي – عمليًّا وموضوعيًّا – إلى بقاء المأزق الوطنيّ والدستوريّ قائمًا، والطريق مسدودًا أمام كلّ مبادرةٍ – إنقاذيّةٍ إيجابيّةٍ لكنْ صارمة – من هذا النوع.
أقول لهؤلاء، ولغيرهم: خذوا مبادرة نوّاب 17 تشرين (وخذوا نوّاب 17 تشرين) بحلمكم. ما تكبروا الحجر. ما بدّها ها القدّ. ليس لهذه المبادرة ندٌّ، أو شبيهٌ، لأنّها ليست معلّبةً ولا موصى عليها، ولأنّها نظيفةٌ وحرّةٌ من كلّ قيدٍ أو شرطٍ.
مضى الأوّل من أيلول، وهو بداية المهلة الدستوريّة لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة. إلى الآن، لم يحرّك رئيس مجلس النوّاب ساكنًا في هذا الشأن، باعتباره الجهة التي تدعو السلطة التشريعيّة إلى الانعقاد. كلّ شيءٍ يستدعي استنفار الجهود واغتنام الوقت الثمين وعدم تضييع الفرص المتاحة. أيجوز؟!
ثمّة مَن يهدّد باحتمالات الفراغ الرئاسيّ. الفراغ خيانةٌ موصوفةٌ. مبادرة 17 تشرين تفتح ثغرةً في جدار “الفراغ الموعود”. أمّا انتخاب الرئيس فهو مسؤوليّة النوّاب والقوى السياسيّة اللبنانيّة حصرًا، قبل أنْ يكون بندًا إلى مائدة الصفقات والتوافقات والإشارات الدوليّة والإقليميّة.
لبنان على فراش الموت والاندثار والتلاشي والتفكّك والامّحاء. شعبه يلعق السكّين والذلّ. هذا الوضع لم يعد يُحتَمل. نريد رئيسًا رئيسًا على الفور.
بصفتي مواطنًا، أدعو النوّاب، كلّ النوّاب، والقوى السياسيّة كلّها، وخصوصًا رئيس المجلس والمتحلّقين حوله، إلى تلقّف – “جوهر” – مبادرة نوّاب 17 تشرين و”مبتغاها”.
هذه الفرصة قد لا تعود متاحةً بعد حين، وقد لا تعود متاحةً معها أسماء المرشّحين المحتملين القادرين على النهوض بأعباء هذه المبادرة. وخصوصًا إذا تداخلتْ عواملُ وعناصرُ وظروفٌ وحساباتٌ ومصالحُ متضاربةٌ ومتصارعة. آنذاك، ليتحمّل الجميع مسؤوليّة القتل القصديّ الإضافيّ الجديد للبنان واللبنانيّين.