كتب جوني منيّر في الجمهورية:
الاجتماع الثلاثي الاميركي – الفرنسي – السعودي، والذي عقد في نيويورك على مستوى وزراء الخارجية، حصل بناء لرغبة فرنسا التي أرادت منه بشكل خاص إعطاء دفع معنوي دولي لمبادرتها تجاه لبنان، بعد التراجع الذي سجلته هذه المبادرة لاعتبارات عدة. فإضافة الى النكسات المتتالية، والتي كان آخرها «إحراق» أسماء صديقة لفرنسا طُرحت لدخول الحكومة عندما جرى تشكيلها منذ حوالى السنة، يدور الحديث حول وجود تباين في النظرة بين اعضاء الفريق الفرنسي المكلف بمتابعة الملف اللبناني، لا سيما ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية. وبالتالي، فإنّ عقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية وبمشاركة اميركية، يمنح المبادرة الفرنسية دفعاً معنوياً، او هذا على الاقل ما تتوقّعه باريس.
صحيح انّ البيان الصادر لم يتضمن مفاجآت بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن ثمة ملاحظة اساسية تتعلق بتضمين النص القرار 2650 والمتعلق بالتجديد لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان الى جانب القرارات الدولية الاخرى. مع وجوب عدم إغفال تأييد روسيا الملفت لصدور هذا القرار المعدّل عن مجلس الامن. وبالتالي، فإنّ ما صدر من نيويورك ولو انه لا يعني الشروع في تطبيق تفاهمات او خطة جرى التفاهم حولها دولياً على شكل برنامج عمل، الا أنه يؤشّر على الاقل الى أنّ لبنان ليس منسياً وانه موجود على «جدول الاعمال» الدولي المؤجل تنفيذه بانتظار التوقيت الدولي الملائم، والذي قد لا يطول كثيراً.
وبخلاف المواقف المتشنجة التي تصدر عن القوى المختلفة على ساحة الشرق الاوسط، إلا أنه لا بد من القراءة بتأنٍ وعمق في أحداث حصلت وتعطي جواباً حقيقياً عن الصورة الفعلية.
فخلال الاسابيع المعدودة الماضية، مرّت ايران في اختبارين قاسيين ورغم ذلك لم تعمد الولايات المتحدة الاميركية على الاستثمار السياسي والاعلامي فيهما ضد السلطة في ايران، وهو ما كانت تفعله في العادة. الاختبار الاول حصل في العراق وعلى الساحة الشيعية. ووقفت واشنطن جانباً مُخلية الساحة عن سابق تصور وتصميم للمعالجة الايرانية. أما الاختبار الثاني فهو ما زال قائماً ويتعلق بالاحتجاجات الشعبية داخل ايران. في العادة كانت واشنطن تستغلّ احداثا اقل اهمية لتعمد الى حملة اعلامية وسياسية ضد النظام. ولكن هذا ما لم يحدث الآن رغم دقة الوضع.
وهذا ما يدفع للاستنتاج بوجود تفاهمات في الكواليس وفق «دوزنة» جديدة لساحات المنطقة. فعلى مسافة ليست ببعيدة تحصل تبدلات كبيرة ولكن من دون ضجيج. والمقصود هنا تراجع حضور ايران وحلفائها في منطقة جنوب سوريا، وانتقال معظم هذه القوى الى الشمال السوري، حيث تعمل تركيا على توسيع دائرة نفوذها وملء الفراغات التي يخلّفها انسحاب بعض القوى الروسية تمهيداً لنقلها الى اوكرانيا.
وبموازاة هذه المتغيّرات «الصامتة» جاء القرار 2650 عن الامم المتحدة ومعه «المرونة» اللبنانية في ملف ترسيم الحدود البحرية.
وفي مقابل التقييم الايجابي الغربي لدور «حزب الله» في ملف الترسيم، هناك شكوك من المطالب الاسرائيلية والتي أضيف عليها مطلب جديد خلال الاسبوع الماضي.
وعندما يتصل الرئيس الاميركي برئيس الحكومة الاسرائيلية لتمرير ملف الترسيم البحري، فهذا يعني انّ العرقلة تأتي من الجانب الاسرائيلي لا اللبناني. وبالعودة الى الاجتماع الثلاثي، وعلى الرغم من المناشدة في البيان «النيويوركي» حول ضرورة اجراء الانتخابات الرئاسية ضمن مواعيدها الدستورية، الا أن الاوساط الدولية تعترف بأن هذا البند هو للضغط وحَث الاطراف على القيام بواجباتها الدستورية وليس للتحذير من خطوات عقابية تنفيذية ستلحق بالقوى النيابية التي ستتخلّف عن القيام بواجباتها الدستورية.
ذلك ان العواصم الغربية اضافة الى القوى اللبنانية، باتت تدرك جيداً أن لبنان ذاهب الى مرحلة شغور رئاسي مع صعوبة انتخاب رئيس في المهلة الدستورية المحددة.
لكنّ الفارق ان اجواء بعض مَن في الداخل اللبناني يتحدث عن شغور رئاسي لا يقل عن سنة، فيما العواصم الغربية تتحدث عن شهرين اثنين.
أغلب الظن انّ لبنان الذي لم يعد يمتلك المقومات الفعلية لتجعله قادرا على الانتظار لفترة طويلة، قد يتفسّخ قبل الوصول الى فترة السنة من الشغور.
وفي الوقت نفسه فإنّ الظروف السياسية والرؤوس الحامية قد تتطلب فترة اطول بقليل من فترة الشهرين، لتصبح المواقف المتصلبة اكثر مرونة للقبول بالتضحيات. صحيح ان اوضاع الناس باتت «مهترئة» وان المجتمعات على تعددها واختلافها تشهد تحللاً واتساع دائرة الفقر وازدهار عالم الجريمة، لكن الطبقة السياسية ما تزال تعمل وفق أجندتها التي ترتكز على مصالحها الخاصة والضيّقة.
وخلافاً للكلام التفاؤلي الذي ساد قبَيل سفر الرئيس نجيب ميقاتي الى لندن فنيويورك حول انّ الحكومة اصبحت جاهزة للصدور، الا أن الحقيقة بأن موعد ولادة الحكومة ما يزال غير قريب، وعلى الأرجح لن يحصل قبل النصف الثاني من الشهر المقبل، هذا اذا حصل ذلك. صحيح انه جرى التفاهم على إسقاط اقتراح وزراء الدول الست واستبدال وزير المال بالنائب السابق ياسين جابر ووزير المهجرين بإسم درزي غير مُستفز… لكن العقبات الفعلية التي ما تزال تحول دون الولادة الحكومية تتلخّص بالآتي. الرئيس ميقاتي يريد الموازنة التي ستقر اليوم اضافة الى الكابيتال كونترول قبل ولادة الحكومة. اضافة الى انه يريد تقصير عمرها قدر الامكان بوجود الرئيس عون، بهدف «تقليص» مرحلة ضغوط عون لإصدار تعيينات يريدها الى الحد الأدنى الممكن.
وفي المقابل بات رئيس الجمهورية يريد التزاماً مسبقاً بالتعيينات التي يجب إقرارها قبل ان يُصدر مراسيم الحكومة.
وهو ما يعني انّ شد الحبال ما يزال مستمراً وقد لا ينتهي قبل منتصف الشهر المقبل، هذا اذا أردنا ان نتفاءل.
أضف الى ذلك انّ العقدة الاسرائيلية الجديدة حول ملف الترسيم البحري تطرح علامات استفهام. والذي أثار القلق انّ موازنة شركة توتال للعام 2023 لم تلحظ اي مشروع حفر في المياه اللبنانية.
وعندما سُئل رئيس الشركة عن ذلك، كان جوابه انه يمكن ادراج هذا البند كإضافة فور حصول التوقيع. لكن المهم ان يحصل الاتفاق وان يجري توقيعه وإتمام كل مستلزماته الرسمية. وخرج هؤلاء بانطباع انّ الشركة لا تجد في المشروع المطروح عامل إغراء تجاري كبير، بل ان الشركة تقوم به خدمة للسياسة الفرنسية اكثر منه كعامل تجاري مُغرٍ وجذاب.
وفي المحصّلة ان الوقت الضائع الذي سيمرّ به لبنان له ظروفه ومبرراته الاقليمية التي تنتظر ان تنضج اكثر، وله اسبابه الداخلية والتي تتعلق دائماً بالمصالح الخاصة والحسابات الذاتية ولو فوق الانقاض، ولو فوق الخراب.