كتب مجيد مطر في نداء الوطن:
التحليلات الصحافية التي تشير الى تغير في سلوك «حزب الله» ودخوله في لعبة السلطة، او ما اسماه يوماً الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين «ضرورات الانظمة» فيها كثير من الصحة والواقعية. وبمزيد من التعمق في الموضوع يمكن ربط هذا التحول بحرب تموز ونتائجها السياسية والعملانية.
وضرورات الانظمة تلك هي مفهوم سياسي دائم الحضور، عند اتخاذ الانظمة موقفاً لا يرضي الشعوب، وتحديداً في ما يتعلق بالتطبيع مع العدو الاسرائيلي، فكان ذلك حجة بيد الحكام لتبرير السياسات التي يقومون بها.
ومن نافل القول إن « حزب الله» هو السلطة الفعلية وإن مارسها على نحو ضمني.
فقد ورث الحزب المعادلة التي صاغها السوريون «ايها اللبنانيون لكم السياحة والاقتصاد ولنا الامن والسياسة، ابدعوا في ذاك، ولا تقربوا هذا». فوفقاً لمعطى الضرورات تصرّف الحزب. فبدا اقرب الى نهج الانظمة من حركات التحرر كما يدعي هو، بمعزل كيف يراه الآخرون.
وكل ما يتعلق بالحدود الجنوبية، وكل الحدود، أو بأي قرار سياسي ــ عسكري، ممنوع على الدولة ان تتخذه على نحو يعبر عن الانتظام الدستوري للمؤسسات، كإعلان السلم والحرب على سبيل المثال لا الحصر. بمعنى آخر ممنوع على لبنان صياغة سياسة خارجية تنطلق من المصلحة الوطنية حصراً.
وما حصل بملف الترسيم ما كان ليصل الى خواتيمه، بدون رضى «حزب الله»، الذي يؤثر داخلياً من خلال ارادة خارجية. اما المسموح له فقط، فهو حريته لمن يهدي هذا الانجاز.
ولا مفاجأة في أنه قد اهداه الى حليفه العوني، في دلالة على اهمية الاستثمار السياسي الذي قام به الحزب في ذلك التيار، الذي لا حول له ولا قوة، الا من خلال حليفه الالهي الداعم له في وجه الجميع بمن فيهم اقرب الحلفاء.
فمَن غير جبران باسيل يحق له قول: «أن لا مشكلة وجودية له مع اسرائيل التي لها حق بالحياة». ومَن غير الرئيس الحالي يحق له التنازل عن حقوق لبنانية، لم تحسم نهائياً لا من الناحية العلمية، حيث هناك آراء تؤكد ان الخط 29 يعبر عن حدود لبنان البحرية، ولا من الناحية السياسية الدستورية، فلم يحسم الامر كما ينص عليه الدستور.
ومن غير هؤلاء يحق له وضع كل شيء في سبيل رفع العقوبات الاميركية عن الحليف المدلل، الذي ما إن يلتقط الاشارات الخارجية حتى يبادر بكل ما أوتي من قوة، وبمباركة من الحزب لإدخال كل ما يقدر عليه في نزاع المصالح والبقاء.
تنازل غير معلن
موقف «حزب الله» من الترسيم واضح جداً، وإن لا يملك ميزة الوضوح. في موقفه تنازلٌ كثير، بيد أنه يحتمي بقرار السلطة، ويقف خلفها بشروطه هو لا بشروطها. والسؤال الوجيه الذي لسنا بحاجة لمساعدة صديق للاجابة عليه، هو كيف وصل الحزب الى هذا الواقع التنازلي؟
الجواب انها حرب تموز التي انتجت القرار 1701 الذي ما انفك الحزب «يلعنه» ليل نهار ولا يعترف به ولا بمندرجاته.
انتجت حرب تموز واقعاً صعباً على لبنان وعلى قيادة «حزب الله»، من ناحية قساوة القصف وشدة العدوانية الاسرائيلية لما الحقته بلبنان وبالبنية التحتية فيه من دمار، وقد جاء القصف الاسرائيلي غير المسبوق حينها برضى اميركي، بهدف اغلاق الجبهة الجنوبية الى امد طويل، كون ادارة الرئيس بوش وقتها، كانت تريد التركيز على ملفات دولية اخرى، ولا تريد ان يشغلها التوتر على الحدود بين الفينة والفينة، فطلبت من الاسرائيليين الرد بقوة، انما من دون المس بركائز الدولة اللبنانية ولا بمؤسساتها. فكانت تلك الحرب الشرسة التي تركت اثراً في الحزب وداعميه، الذين قبلوا بالقرار 1701 على مضض، فدخلت الجبهة الجنوبية رغماً عنهم في محاكاة لجبهة الجولان السورية، لناحية صعوبة العمل العسكري من خلالها، خوفاً من رد فعل شعبي لبناني.
فمنذ عقد ونيف لا تزال الجبهة الجنوبية تشهد استقراراً امنياً مستمراً، رغم انها شهدت اكثر من توتر امني خطير لم يؤد الى حرب. تلك اذن المكتسبات المحققة للطرفين. فاسرائيل مستفيدة من هدوء الجبهة، وتعمل على تطوير حقولها الطاقوية، والحزب اصبح سيد الموقف في لبنان، ولا مصلحة له بدخول صراع، يعرف كيف يبدأ ولا يعرف كيف ينتهي. ووفقاً لهذا الواقع كان يحلو للحزب دعوة اللبنانيين الى الصراع خارج لبنان، أي في كل الميادين التي تدخّل فيها، ما عدا لبنان الذي يعتبر ركيزة اساسية للمشروع الايراني في المنطقة، حيث لا مصلحة في خسارته، حتى وإن وصل كدولة وكيان الى مستويات غير مسبوقة من الترهل والفوضى.
لا شيء مثل ترسيم الحدود البحرية، الذي يحمل مضامين عدة، ابرزها شبهة التطبيع البحري مع العدو، قادر على تأكيد ما نحن بصدده. هذا المستجد السياسي هو نتيجة مباشرة للقرار 1701 الذي جاء لصالح الدولة اللبنانية، الغائبة وقد طال غيابها.