كتب إبراهيم حيدر في النهار:
أخطر ما فعله رئيس الجمهورية ميشال عون قبل مغادرته قصر بعبدا إلى الرابية هو توقيعه مرسوم اعتبار حكومة تصريف الاعمال مستقيلة وإعلانه ذلك في كلمته خلال احتفالات التيار الوطني الحر بخروج الرئيس من القصر. كل الكلام الذي قاله عون مكرراً مواقفه السابقة من اعتباره اتفاق الترسيم انجازاً إلى هجومه على المنظومة الحاكمة منذ 32 عاماً والتي يعتبرها مسؤولة عن وصول البلد إلى مرحلة الانهيار، وتركيزه على مسؤولية حاكم مصرف لبنان، لا يوازي خطورة مرسوم قبول استقالة الحكومة، وهو بمثابة انقلاب ضد البلد ورسالة للجميع بأن القرار انتقل إلى الرابية، وتأكيداً لما قاله جبران باسيل أخيراً إن عهد عون لن ينتهي بالخروج من القصر، كما لم يبدأ عند الدخول إلى بعبدا.
اعتبار حكومة نجيب ميقاتي مستقيلة وفق المرسوم، حُكماً، والرسالة التي وجهها عون إلى مجلس النواب عبر رئيسه نبيه بري، مطالباً بنزع التكليف، تؤكد بما لا يدعو للشك الإصرار العوني على الاستمرار في حجز البلد لحسابات سياسية ضيقة، فانتهاء ولايته التي حفلت بخيبات واخفاقات وايضاً انكسارات باستثناء ما اعتبره انجازاً في الترسيم، يحوله ميشال عون إلى انتصار على أنقاض لبنان، وهو يذكر اللبنانيين بخروجه في 13 تشرين 1990 مهزوماً ولجوئه إلى فرنسا ليبدأ مرحلة جديدة قبض ثمنها في 2005، وأيضاً عند انخراطه في الحكم وتحالفه مع “حزب الله” وتعطيله الحكومات وصولاً إلى الفراغ الذي استمر أكثر من سنتين بين 2014 و2016 إلى أن انتخب رئيساً للجمهورية كمرشح وحيد تعطل البلد كله على اسمه.
يكرس ميشال عون من الرابية نفسه صاحب القرار والقادر على التعطيل، ويسعى إلى استمرار عهده الذي بدأ اساساً منذ توقيع وثيقة التفاهم مع “حزب الله” وتكرس بالانقلاب على حكومة سعد الحريري في 2011، وهوعطّل البلد بحجة استعادة الصلاحيات في الحكومات المتعاقبة، إلى أن دخل بعبدا في 2016، وهو يعود إلى قصره السابق متمسكاً بالتعطيل كحالة مستمرة ورئيس تيار أبدي يريد أن يأخذ كل شيء ورافعاً شعار المحرومين أو المظلومية لتحقيق مآربه واستعادة شعبيته.
توقيع عون على مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة يُعتبر سابقة لم تحدث في لبنان إلا مع تشكيل حكومة جديدة، وسيكون له تداعيات خطيرة على الوضع الداخلي، وهو يؤكد فشل المساعي التي قام بها “حزب الله” مع التيار العوني والتي توجت بلقاء السيد حسن نصرالله بباسيل. ولعل كلام عون لدى خروجه يعكس حجم الاستعصاءات أمام التشكيل وخطورة جر البلد إلى الفوضى الدستورية. ومنذ الآن اي مع انتهاء الولاية أراد عون أن يواصل الحالة العونية بعهده من الرابية، منطلقاً من الهجوم على المنظومة الحاكمة “التي حاربته ومنعته من تحقيق انجازات” وهو الذي كان ينشد الخلاص للوطن بالمحاصصة مع المنظومة ذاتها ويجسد حكمه خلال السنوات الست الماضية طرفاً وخصماً وليس حكماً بين اللبنانيين قادراً على المبادرة وإدارة التناقضات. ومن الهجوم في بعبدا وصولاً إلى الرابية يقدم عون نفسه صاحب الحل وإليه تعود إدارة شؤون البلد وإن كانت عبر الفوضى، وتكريس وضعه مقرراً في اختيار اسم الرئيس المقبل للجمهورية.
بنى ميشال عون كل مطالعته باعتبار الحكومة مستقيلة على أن نجيب ميقاتي لا يريد التشكيل، وهو رمى الكرة إلى مجلس النواب لنزع تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، ما يعني فشل كل المبادرات التي لم تحمل ضغوطاً من “حزب الله” الذي كان يُصر على تشكيل الحكومة، نظراً لحاجته لها أولاً للتغطية ولعدم تحميله مسؤولية الانهيار، ولأن عدم التشكيل سيكون له انعكاسات خطرة على الوضع الداخلي. فالفراغ بالنسبة إلى الحزب هو سيف ذو حدين والفوضى الدستورية تفتح ملفات كبرى تتعلق بالنظام والصيغة وتعيد فتح ملف الطائف خصوصاً وأن الحزب غير قادر حالياً للانقضاض على البلد، وهو ارتاح من ملف الترسيم وخرج من مأزق الحرب والتصعيد. لكن باسيل لم يكن إيجابياً في هذا الأمر مستنداً إلى معادلة أن التيار العوني لا يزال حاجة لـ”حزب الله”، وعلى هذا سقطت محاولة الحزب وهو الذي كان تواطأ مع العونيين في مختلف الملفات وقدما لبعضهما البعض التغطيات السياسية المناسبة خلال حكم ميشال عون الذي انحاز إلى محور الممانعة.
اليوم تبدأ مرحلة جديدة في البلد عنوانها الفوضى الدستورية، وان كان ميقاتي أعلن استمرار الحكومة بمتابعة واجباتها الدستورية كافة ومن بينها تصريف الاعمال وذلك في رسالة إلى بري. ولذا انتهت وساطة “حزب الله” بالتشكيل ليعود إلى تحالفه مع ميشال عون بموقعه في الرابية ومحاولة التفاهم معه حول تصريف أعمال الشغور الرئاسي. ويبدو أن الحزب سيجاري العونيين في موقفهم من الحكومة، أولاً بعدم عقد جلسات للحكومة، علماً أن عون ناقض نفسه في موضوع الحكومة عندما كان يدعو رئيس الحكومة السابق حسان دياب إلى تفعيل عمل حكومته لتصريف الاعمال وعقد جلسات لها، فيما يُمنع على الحكومة الحالية الامر ذاته، وهي إذا لم تتمكن من عقد اجتماعات سيواجه البلد فراغاً قاتلاً ينزلق به أكثر إلى حافة الهاوية.
سيمنع عون من الرابية اي محاولة للحكومة لممارسة صلاحيات يعتبرها حصرية بالرئيس، واي جلسة سيعقدها قد تؤدي الى انسحاب الوزراء المحسوبين على التيار، وقد يتضامن معه “حزب الله” بعدم حضور الجلسات. ويعني ذلك مزيداً من الفوضى والانقسام حول تفسير الدستور مع اصطفافات طائفية ومذهبية خطيرة تضع البلاد أمام وضع صعب وتوترات أمنية واجتماعية خطيرة. ويراهن عون في هذا المجال عبر دعم “حزب الله” على الأخذ بشروطه في كل الاستحقاقات كي تكون هناك تهدئة، أو يفتح الباب على الفوضى والتوترات لفرض أمر واقع جديد يفرض نفسه على البلد. لكن هذه المراهنة العونية امامها صعوبات ايضاً إذ لن تستسلم القوى الاخرى لما يريده عون، ومن الآن بدأت الاستعدادات بين بري وميقاتي وقوى حليفة أخرى للسير بحكومة تصريف الاعمال إلى حين انتخاب رئيس جديد.
يبقى اتفاق ترسيم الحدود، الملف المشترك بين عون و”حزب الله”. هما يريدان الاستثمار فيه إلى أبعد الحدود. ويأتي انتقال عون إلى مقره في الرابية ليبقى يشكل عقدة أمام أي حل شامل للوضع اللبناني. فاتفاق الترسيم الذي اعتبره ميشال عون انجازاً ينهي به عهده سيستخدمه في كل ما يتعلق بإدارة شؤون لبنان، ويقدم نفسه مع تياره في البلد حاجة لـ”حزب الله” وحاجزاً لانتقال البلد إلى مسار التعافي، وتوظيفه لتحسين وضعية جبران باسيل للرئاسة.