كتب جوني منيّر في الجمهورية:
عاملان اثنان يحجبان الرؤيا أمام اللبنانيين لمتابعة التطورات الخارجية رغم انّهما الأهم والأخطر.
العامل الاول يتعلق بالصخب الداخلي الذي يرافق ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية، والتي كان آخرها المستجدات في العلاقة ما بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”.
اما العامل الثاني، فيتعلق بمتابعة اللبنانيين لمجريات مباريات كأس العالم في كرة القدم. لكن هذا الضجيج في الوعاء الصغير لا يستوجب إشاحة النظر عن التطورات الكبيرة الدائرة بالقرب من لبنان. فثمة مشاريع كبيرة تذكّر إلى حدّ بعيد بالذي حدث في العام 1990، تاريخ غزو صدام حسين للكويت، وما تلا ذلك من حرب عُرفت بحرب الخليج الاولى. يومها دخل لبنان كبند في دفتر شروط تلزيمات معركة تحرير الكويت، والجميع يعرف التتمة.
كذلك ما حصل في العام 1976، حين استوجبت التطورات الاقليمية، لا سيما تصاعد حركة ونفوذ منظمة التحرير الفلسطينية على ساحة الشرق الاوسط، عقد تسوية مع سوريا، قضت بإدخال جيشها إلى لبنان تحت عنوان وقف الحرب الاهلية، ولكن بمهمة ضبط الفلسطينيين.
في الواقع، ثمة مستجدات كبيرة ستلفح لبنان بكل تأكيد. بداية من الحرب الدائرة في اوكرانيا، حيث ظهرت علامات التعب لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفق تقديرات مختلفة. فبحسب مجلة “فوربس”، أنفقت روسيا حوالى 82 مليار دولار خلال الاشهر التسعة الماضية، وتحديداً منذ بدء الحرب الاوكرانية. ومن هذه الخسائر، حوالى 21 مليار دولار في المعدات العسكرية لوحدها.
صحيح انّ عائدات الموازنة الروسية بلغت في العام 2021 حوالى 340 مليار دولار، إلّا انّ هذه العائدات آخذة بالتقلّص نتيجة العقوبات وتراجع مبيعات النفط، ما أجبر موسكو على بيع النفط في السوق السوداء وبأسعار منخفضة، وهذا ما يجعل تأمين فاتورة الحرب في اوكرانيا، والمقدّرة بحوالى 10 مليار دولار شهرياً اكثر صعوبة.
ولا يجب ان ننسى ابداً، بأنّ الوضع الاقتصادي هو الذي ادّى إلى فرط الاتحاد السوفياتي وتفكّكه، لذلك يُسجّل نقص في ذخيرة الجيش الروسي، وهو ما دفعه لاقتراض حوالى 12 مليار دولار بهدف تمويل الحرب.
في المقابل، يبدو الرئيس الاميركي جو بايدن اكثر استعداداً للخروج من الحرب، وخصوصاً بعد نتائج الانتخابات النصفية، والتي ستسمح له بالقيام بالخطوات اللازمة للذهاب إلى وقف الحرب.
أضف إلى ذلك، انّ الشارع الاميركي ما زال داعماً للحرب، لكن وفق نسبة متراجعة وصلت إلى 57%، وبالتالي، فهي إشارة إلى امكانية اقتراب تعب الاميركيين من حرب بعيدة، وطالت بعض الوقت، تماماً كما سبق وحصل من تعب مع حروب اخرى.
وخلال الايام الماضية، حصل تبادل سجينين بين موسكو وواشنطن، وهي إشارة توحي باقتراب موعد التفاوض، خصوصاً انّها اتت بالتزامن مع نتائج القمة الاميركية – الفرنسية. فإثر ذلك اعلن ماكرون انّ ادارته جاهزة للانخراط بديبلوماسية التفاوض، إذا أبدى بوتين استعداده بهذا الخصوص.
وفي السياق نفسه، حصل اجتماع اميركي – روسي ثانٍ في اسطنبول، بعد اجتماع اول في 14 تشرين الثاني الماضي بين رئيسي مخابرات البلدين.
أضف إلى ذلك، إشارة ملفتة من وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن، باعتباره بوتين “رجلاً عقلانياً مع انّ قراراته ليست كذلك”، انّها اشارة اميركية ايجابية.
لكن وبموازاة ذلك، دخول صيني من الباب العريض إلى احدى المناطق التي كانت تُعتبر منطقة نفوذ اميركية صافية. فالصين التي تشكّل تحدّياً عالمياً للنفوذ الاميركي، تبحث عن حلفاء جدد وعن خارطة تأثير جديدة، من اجل تحقيق حضور مؤثر في منطقة الخليج، وهي وجدت الفرصة سانحة مع تراجع مستوى العلاقات الاميركية – السعودية إلى أدنى مستوياتها منذ نشوئها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
صحيح انّ الاستقبال الحافل للرئيس الصيني، بعد استقبال متواضع وخجول للرئيس الاميركي منذ حوالى 5 اشهر، حين لم يجد وزيراً في استقباله، يعكس الصورة الفعلية للعلاقات، الّا انّ السعودية كما دول الخليج لن تدير ظهرها للولايات المتحدة الاميركية، التي لا تزال تمسك بورقة الحماية الأمنية والضمانة العسكرية، وهو ما لا تستطيع الصين القيام به على الاقل حتى الآن. وصحيح انّ النتائج الحافلة للتعاون بين السعودية والصين جرى وصفها بالاتفاقات الاستراتيجية، الّا انّ واشنطن لم تبدِ قلقها بعد، ولو انّها تراقب عن كثب، وهي تعتبر انّ الاقتراب من الامور والمجالات الأمنية والعسكرية بمثابة الخط الاحمر، والذي لا يجب الاقتراب منه. وواشنطن تقرأ الرسالة السعودية بأنّها تأتي في إطار عدم اعتبار العلاقة الاميركية معها “كتحصيل حاصل”، وانّها قادرة على التنويع ولديها الحرية المطلقة بذلك.
في المقابل، فإنّ واشنطن توحي بأنّها لا تطلب الاختيار بينها وبين الصين، لكنها ملتزمة بشدّة بمسؤوليتها الأمنية في الشرق الاوسط والخليج، وهو ما لا تسمح لأحد بالاقتراب منه. ويستعد وفد من وزارة الخارجية الاميركية لزيارة المنطقة خلال الايام المقبلة، ويشمل اسرائيل والبحرين والاردن، لتوجيه رسائل بهذا المعنى.
فواشنطن لا تزال تعتبر انّه لا توجد نوايا سعودية ولا خليجية باستبدال فعلي للدور الاميركي. ذلك انّ هنالك ضوابط للعلاقات السعودية – الصينية، والتي ستبقى تحت الرعاية الصارمة. مع الإشارة الى انّ وزير الدفاع الاميركي كان قد حذّر من التعاون الوثيق مع الصين في المجالات الأمنية والعسكرية. معتبراً انّه يضرّ بالتعاون القائم مع واشنطن. والسعودية تدرك ايضا بأنّ الصين ترتبط بعلاقة وثيقة مع ايران، الخصم اللدود للسعودية. وهذا ما يضع حدوداً للسعودية في علاقتها المفتوحة مع الصين. وفيما دول الخليج منشغلة برسم خارطة علاقاتها الدولية الجديدة، بكثير من الحذر والتأني، تبدو اللحظة مناسبة والساحة مفتوحة لإنجاز تسويات في العراق وسوريا ولبنان، وهنا بيت القصيد.
ففي العشرين من الشهر الجاري سيُعقد مؤتمر دول الجوار للعراق بنسخته الثانية، وهذه المرة في الاردن. وهذا المؤتمر يأتي بعد القمة الاميركية – الفرنسية ونتائجها حيال فتح ابواب التسوية مع روسيا، وبعد سعي تركيا لبسط نفوذها شمال العراق. وبالتالي، من البساطة لا بل من السذاجة التعاطي مع هذا المؤتمر من دون لحظ التبدّلات الحاصلة.
فقط للتذكير، فإنّ ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الاسرائيلية تزامن مع تطورات على مستوى تشكيل السلطة في العراق لصالح حلفاء ايران.
ففي الكواليس همس حول انّ مؤتمر عمان سيشكّل إقراراً شرعياً ضمنياً بطموح تركيا في شمال سوريا، وطموح ايران في شمال العراق، تحت عنوان مواجهة الاكراد.
وفي وقت تعاني فيه السلطات الايرانية من استمرار التظاهرات والاضطرابات للشهر الثالث على التوالي، تعمل ايران على أن تكرّس نفسها كشريك في المشاريع الاقتصادية العراقية الضخمة بشكل مباشر وبغطاء اقليمي تركي ودولي اميركي سيحمله الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.
وفي المقابل، تدور مفاوضات تتولاها قطر وتركيا من اجل ترتيب هدنة طويلة الأمد بين اسرائيل وحركة “حماس”.
كل هذه المقايضات ستفتح الابواب امام إيجاد تفاهمات اقليمية للأزمة اللبنانية. والمقصود هنا ترتيبات ستدفع بلبنان إلى حقبة طويلة نسبياً من الاستقرار، تبدأ مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وستكون نسخة مكرّرة ولكن منقّحة للظروف الاقليمية التي ساهمت في إنجاز ملف الترسيم البحري، ولكنها ستشمل هذه المرة الاتفاق على العناوين الكبرى للمرحلة المقبلة في لبنان.
هو مزيج يجمع بين تجربة المقايضة التي واكبت حرب تحرير الكويت عام 1990، والتسوية الاقليمية التي سمحت بالترسيم البحري في جنوب لبنان.
ولكن مع الاشارة إلى استبدال تلزيم الجيش السوري للبنان في العام 1990، بتلزيم الجيش اللبناني بإعادة بناء مؤسسات الدولة والإمساك بالارض. من هنا الدور المتقدّم لقطر، ولو انّه لن تكون هنالك اندفاعة كبيرة لقطر في المرحلة الراهنة بانتظار مسألتين أساسيتين.
الاولى، وتتعلق بإنضاج الطبخة الاقليمية وإتمامها. ذلك انّ مؤتمر عمان سيشكّل خطوة متقدّمة في هذا الإطار، ولكن ليس ابداً خطوة حاسمة.
والثانية، انتظار ما ستؤول اليه الاوضاع والتطورات الداخلية اللبنانية. وهذا ما يعطي الإجابات عن الكثير من الاسئلة والأحداث الغامضة التي حصلت أخيراً على الساحة السياسية اللبنانية.