كتب جوني منيّر في الجمهورية:
يكثر ترداد شهر آذار في الاروقة الديبلوماسية المهتمة بالوضع في لبنان، ومما لا شك فيه أنّ وصول الحركة الداخلية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية الى الحائط المسدود أعاد تسليط الانظار على وجوب حصول دَفع خارجي لفتح كوّة في الجدار السميك، وبات واضحاً انّ الطبقة السياسية اللبنانية والتي لا تعرف سوى إنتاج المأزق تلو المأزق بسبب أنانيتها الذاتية ومصالحها الخاصة، لا تملك الحلول الواقعية لصياغة الحلول المطلوبة.
ولم يعد سراً انّ هذه الطبقة السياسية هي محط احتقار المسؤولين الدوليين. ولأنّ الوضع وصل الى طريق مسدود، ولأنّ لبنان مهدّد جدياً بمخاطر وجودية، ظهرت تحركات على المستوى الدولي بهدف المساعدة في نسج تسوية داخلية تأخذ لبنان الى مرحلة من الاستقرار تسمح له بإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية والتي دُمرت تماماً خلال السنوات الماضية. ويشكل العشرين من الشهر الجاري موعداً مهماً من خلال الاجتماع الثاني للدول المعنية بالملف العراقي، في العاصمة الاردنية عمان.
وفي هذه المحطة التي تولّت باريس دوراً اساسياً في التحضير لها ورعايتها، ستحضر ملفات اخرى الى جانب الملف العراقي، مثل ملف اليمن وايضا ملف لبنان. ذلك انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سيستغل وجود ايران والسعودية في القاعة نفسها لوضع لبنان على طاولة المحادثات وجَعله من ضمن التفاهمات والحلول لا ثمناً لها. لأجل ذلك سيشكل مؤتمر عمان محطة مهمة على طريق مسار لا يجب ان يطول كثيراً، فالعراق مهم جدا بالنسبة الى إيران، والسعودية لديها تأثيرها الواضح فيه ويهمّها في المقابل الملف اليمني.
ومن هنا فإنّ التركيز سيكون خلال المؤتمر على منحى التفاعل بين طهران والرياض، ولا شك في ان التفاهم هنا سيفتح الباب واسعاً امام الحلول في لبنان. هذا مع الاشارة الى ان حركة قطر في اتجاه لبنان يجري وضع السعودية في تفاصيلها الكاملة.
وفي الفترة الاخيرة استنتج الزوّار الدوليون للرياض أن السلطات السعودية التي وضعت استراتيجيتها للمستقبل تعمل على دَوزنة سياستها الخارجية انطلاقاً من حماية هذه الاستراتيجية التي تقوم على اساس فتح ابواب الاقتصاد والاستثمارات الضخمة، وبالتالي تسعى لتأمين الحماية الامنية وتثبيتها في العمق السعودي والجوار، انطلاقاً من اليمن. ولا حاجة للاشارة الى أن ايران حاضرة في هذا الملف.
وفي شهر آذار المقبل سيجتمع مجلس الامن مجدداً في اطار اجتماعاته الدورية لمناقشة الملف اللبناني والمستجدات الحاصلة من زاويتين: الاولى تتعلق بالساحة الجنوبية وعمل قوات «اليونيفل». والثانية تتعلق بالاوضاع الداخلية والازمة التي يعانيها اقتصادياً وسياسياً والشق المتعلق بالنازحين السوريين.
ومع انطلاق السنة الجديدة ستحلّ خمس دول جديدة مكان دول موجودة الآن، وبالتالي ستخرج ايرلندا والنروج والمكسيك وكينيا والهند لتحلّ مكانها سويسرا التي ستدخل للمرة الاولى الى مجلس الامن، واليابان ومالطا والاكوادور والموزمبيق.
مع الاشارة الى ان دولة الامارات العربية المتحدة ستستمر في عضويتها كممثل وحيد عن مجموعة الدول العربية. وهذا ما يعني أنّ بعض هذه الدول التي ستدخل قريباً، تعتبر نفسها مهتمة بالوضع في لبنان وتسعى لمساعدته. مع الاشارة الى ان بعض المشاورات لحظت إمكانية صدور بيان رئاسي يتناول الازمة اللبنانية، خصوصا ان هنالك اجماعا من هذه الدول على ضرورة مد يد المساعدة للبنان.
والمقصود هنا أنه وبخلاف ازمات اخرى مثل الحرب الاوكرانية، فإن المساعدة في ايجاد حل للازمة اللبنانية تلقى اجماعاً بما في ذلك من روسيا والصين، وهذا مؤشر جيد ويعطي الانطباع بأنّ الفرصة ما تزال موجودة للمساعدة ودفع اللبنانيين الى القيام بالاصلاحات المطلوبة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وتشكيل حكومة فاعلة لا حكومة تَحاصص، قادرة على تطبيق البرنامج الذي وضعه صندوق النقد الدولي.
الواضح ان هنالك إجماعاً على ان يستعيد لبنان استقراره، خصوصاً وان ترسيم الحدود البحرية تم إنجازه بنجاح وهو كان محط ترحيب لدى جميع الدول. واللافت ان هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية راضية عن الوضع في جنوب لبنان والمهمات التي تقوم بها قوات «اليونيفيل» وهذه مسألة في منتهى الاهمية.
ذلك ان الانطباع الموجود هو أن التعاون والتنسيق الحاصل بين اليونيفيل والجيش اللبناني أنتجا استقراراً مدروساً في الجنوب ولا حاجة للاشارة الى أن «حزب الله» الموجود في خلفية المشهد الجنوبي يَتماهى بواقعية من خلال تنسيقه مع الجيش اللبناني من خلال صيغة مدروسة وواقعية. وانطلاقاً من ذلك فإنّ الامم المتحدة وضعت عمل قوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان في اعلى المستويات وافضل المعايير في اطار القيام بواجباتها قياساً الى اعمال قوات الامم المتحدة في مختلف ارجاء العالم.
وهذا ما يعطي وقعاً ايجابياً وممتازاً لطريقة ادارة ملف الجنوب وامكانية أخذ العِبر المفيدة منه للمناطق اللبنانية الاخرى من اجل اعادة تثبيت الاستقرار. طبعاً ليس المقصود هنا ابداً توسيع مهمات قوات اليونيفيل واطار عملها، بل أخذ الدروس المفيدة حول الصيغة التي يعتمدها الجيش اللبناني وطريقة ادارته الناجحة للوضع من اجل استعادة الاستقرار على مختلف الاراضي اللبنانية بالتوازي مع سلطة سياسية واعية وواقعية وبعيدة عن الفساد المستشري وعن الانانية السياسية ومبدأ الزبائنية الذي يميّز سلوك الطبقة السياسية اللبنانية.
لكن ثمة متطلبات وتفاصيل سياسية اخرى تطاول الازمة السياسية في لبنان، وابرزها الوقوف عند موقف «حزب الله». وفيما تبدو باريس مقتنعة بأن «الحزب» لا يريد ولا يلائمه ان تطول ازمة الشغور الرئاسي، ثمة رأي اكثر تطوراً وتفصيلاً بات موجودا لدى الاوساط الدولية المهتمة حيال موقف «حزب الله» الفعلي. ويرتكز هذا الرأي على وجود نقاش مفتوح داخل قرار القيادة في الحزب حول كل الاحتمالات والمسار الذي سيؤول اليه كل احتمال وانعكاساته المستقبلية والعملية على لبنان وعلى «الحزب».
واستتباعاً، ووفق اصحاب هذه النظرة، فإنّ «حزب الله» يدرس الاوضاع والمستجدات كافة بتأنٍ ومن كافة جوانبها وتأثيرها المستقبلي وطريقة تفاعله معها. وبالتالي، فإنّ عليه، وفق اصحاب هذه النظرة، ان يحسم خياره باتجاه انجاز التسوية لأنّ الاوضاع في لبنان لم تعد تحتمل ترف «تبذير الوقت»، في وقت تتغير المنطقة كلها.
الاوساط الديبلوماسية، والتي لا تستبعد نسج خيوط تفاهم مع ايران انطلاقا من مؤتمر عمان ومن خلال الساحة العراقية ولو من دون تحقيق انجاز على مستوى الملف النووي وبالتالي ازالة العقوبات الدولية، تتمسّك بوجوب وصول رئيس جديد للبنان وفق ذهنية مختلفة عن السابق لا بل على نقيض الاعراف التي قامت عليها العقلية السياسية اللبنانية، والمقصود هنا رئيس يتمتع بنظافة الكف والشفافية وبابتعاده عن المحسوبيات، وبالتالي عن منطق الزبائنية السياسية، وان يكون اهل ثقة وقادر على الجَمع ما بين مختلف الافرقاء، وان يكون في الوقت نفسه بعيداً عن سياسة المحاور الاقليمية وقادراً على التواصل مع العواصم الاقتصادية لتأمين مشروع انتشال لبنان اقتصادياً.
وفي اشارة جديدة فإنّ الرئيس الجديد يجب ان تكون له علاقات جيدة مع رئيس الحكومة المقبل وان يتفاهم معه، لا ان تستعمل المواقع الدستورية الاساسية كمتاريس لاستمرار النزاعات القائمة أصلاً على المصالح الخاصة، والتي تنعكس دماراً على مستوى عمل السلطات في لبنان وكوارث على مستوى الشوارع اللبنانية المختلفة. ولأن الاستقرار الامني يبقى هو الاولوية فإنّ ثمة حرصاً على مساعدة الجيش اللبناني الذي أثبت جدارته وفعاليته خصوصاً خلال المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان، والتي شكّلت امتحاناً لقدرة الجيش على تجاوز مخاطر تفكّكه كما حصل معه خلال مراحل الحرب، وكما حصل على مستوى مؤسسات الدولة التي كان يُعشعش فيها الفساد، وهو الذي نَما بسبب سياسة المحاصصة التي مارستها الطبقة السياسية اللبنانية بمختلف ألوانها.
وإذ تجزم الاوساط الديبلوماسية بأن لا وجود لأيّ مشروع جدي يقضي بهز الاستقرار الامني، الا انها تخوّفت من تفاقم الفوضى الامنية بسبب استمرار التدهور الاقتصادي والنقدي، في وقت يندفع بعض المتهورين في اتجاه «الامن الذاتي» على سبيل ردة الفعل من دون احتساب النتائج الكارثية للسير بهذا الاتجاه.
وفي اطار مواكبة اكثر فعالية للوضع في لبنان، استعجلَ الفاتيكان في خطوة تعيين المونسنيور كلوديو غوغيروتي كرئيس للكنائس الشرقية مكان الكاردينال ليوناردو ساندري، وقد عمل غوغيروتي كسفير للفاتيكان في لندن.
في اختصار، ثمّة حركة ناشطة في الكواليس على المستوى الدولي، قد تظهر نتائجها خلال الاشهر الثلاثة الاولى من السنة المقبلة، ولكن يجب أن لا ننسى دائماً أننا في الشرق الاوسط حيث المفاجآت تبقى حاضرة دائماً.