
كتب بشار حيدر في نداء الوطن :
شيّع “حزب الله” والشيعة بأغلبيتهم الساحقة أمس قائدهم “الأسمى” وشيّعوا معه غلبتهم على منافسيهم في الوطن. ولهذا هم طبعاً حزينون وغاضبون.
من الصعب الجزم من الآن كيف سينظر الشيعة اللبنانيون في المستقبل إلى هذه الحقبة المنقضية من تاريخهم. هل سيرون فيها عصراً ذهبياً يحلمون دوماً باستعادته، أم جزءاً من مسلسل مآسيهم الكربلائية التي تشكل هويتهم الطائفية الراسخة.
في كل الأحوال، المرجح ألا ينخرط “الحزب” وأنصاره في مراجعة نقدية جدية لتلك المرحلة. فلقد استقر الأمر منذ زمن على التسليم عملياً بعصمة نصرالله، وهي عصمة لا بد وأن تزداد ثباتاً بعد موته.
لذا لن يخرج من صفوف “الحزب” أو أنصاره من يقول إن “الوعد الصادق” لم يكن صادقاً في نهاية الأمر، بل كان، كما مريدوه، ضحية أوهام عبادة الذات.
لكن، حتى بغياب أي مراجعة نقدية لـ “الحزب”، لن يكون لسلاح المقاومة دور ذو شأن في المرحلة المقبلة. فإن كان هناك أمر يسلم به “الحزب” وجمهوره اليوم فهو الفجوة التكنولوجية العسكرية الهائلة، وغير القابلة للردم في المدى المنظور، بينهم وبين إسرائيل، والتي ستجعل أية مواجهة مع الأخيرة أقرب إلى مشهد كربلائي ساحق منها إلى حرب بين طرفين، خصوصاً وأن إسرائيل، بعد السابع من أكتوبر، لن تسمح لـ “الحزب” بإعادة بناء ترسانة عسكرية، كما لن تترك هذا الأمر للبنانيين ليقرروه بأنفسهم.
ما يسعى إليه “الحزب” اليوم هو أن يصنع من التشييع لحظة تأسيسية جديدة لما بعد “الهزيمة” (أو أية تسمية أخرى يرتضيها “الحزب” لوصف ما جرى في الأشهر القليلة الماضية).
وهي لحظة يجري استحضارها وتكرارها للحفاظ على عضد طائفي يشد الأزر ويحمي من غدرات الزمن، وهذا زمنها. لقد أدرك “الحزب” متأخراً أن لا توازن رعب مع إسرائيل، بل رعب من طرف واحد. وبذلك خسر فائض القوة العسكرية التي راكمها واستند عليها ليراكم تعاضداً شيعياً شبه مطلق ويفرض سلطته على أخصامه وحلفائه سواءً بسواء.
أما اليوم، فأقصى طموح “الحزب” المحافظة على فائض اللحمة الطائفية التي سمحت له، مع ثاني الثنائي، بالفوز بكل مقاعد الشيعة في مجلس النواب.
وهو احتكار لم تحظ به يوماً أية قوة أو تحالف سياسي في أي من الطوائف الأخرى ذات الحجم الديموغرافي الوازن. لكن فائض اللحمة الطائفية هذا والذي بُني على فائض القوة العسكرية والقيادة الاستثنائية، لن يعيش طويلاً مستظلاً فقط بأمجاد الماضي وبتضحياته دون رفده بمشروع سياسي مستقبلي.
وبما أن مشروع المقاومة وسلاحها صارا متعذرين بعد الهزيمة، فلن يبقى لـ “الحزب” وجمهوره إلا مشروع الدفاع عن حقوق الطائفة وعن المكتسبات التي راكمتها خلال “عصرها الذهبي”.
وهكذا لن يبقى لـ “الحزب” إلا الانخراط في عقد اجتماعي طائفي يشبه غيره من العقود الطائفية في البلاد، حيث الولاء السياسي مقابل الدفاع عن الحصة الطائفية وتوسيعها ما أمكن.
وفي هذه الحال لن يكون لديه خطاب أو وظيفة يميّزانه عن حلفائه في “حركة أمل” الذين تمرسوا في لعبة إدارة المحاصصة الطائفية. لذا فبدل أن تتكامل وظائف الثنائي كما عهدنا في الماضي، سوف يبدأ عهد التنافس وربما التناحر بين ممثلي الطائفة الشيعية، ليلتحقوا بذلك بأقرانهم في الطوائف الأخرى.
وهذا شيء لا يدعو للأسف. فالمنافسة داخل الطوائف هي الأمر الطبيعي والصحي في بلد لا زالت الهويات الطائفية تشكل العصب الأساس للهويات السياسية فيه.