صحيح أن الطابع العام للتحقيقات والتعاون بين الجيش وحزب الله وقوات اليونيفل، أنتج خلاصة واضحة للجميع مفادها أن الحادثة لم تكن مدبّرة بل نتيجة أخطاء غير مقصودة حدثت عشية تلك الليلة، ما أحبط محاولات التسييس. إلّا أن استخدام السلاح و«الحنق» على القوات الدولية، إضافة إلى سلسلة من الحوادث الأمنية والجنائية التي سجّلتها قوى الأمن الداخلي، أقلقت الدوائر الأمنية في السفارات من توتّر عام يدفع نحو انفلات السلاح والعنف، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية وانهيار الدولة.
في الأصل، تختصر القراءة الأمنية، الأوروبية تحديداً، الواقع الأمني اللبناني من ثلاث زوايا: الأولى هي التوتر في الجنوب بين المقاومة والعدو الإسرائيلي وشكل الصراع المحتمل واحتمالات الانزلاق إلى صدامٍ مسلّح. الثانية، خطر الفوضى الاجتماعية الآخذة في التوسّع. بينما تحاكي الزاوية الثالثة خطر المجموعات الإرهابية ذات البعد الإسلامي السلفي.
تقرأ الملحقيات الأمنية في السفارات الغربية هذه المخاطر، بعيداً عن شعارات الاهتمام الغربي بـ«الاستقرار اللبناني» للأسباب الأخلاقية أو السياسية المعلنة لزوم اللياقات الدبلوماسية، إذ يخشى الأوروبيون الغربيون انعكاس اهتزاز الأمن على بعثاتهم الدبلوماسية ومصالحهم بشكل مباشر، مع تمدّد الفوضى التي تسمح لعدد من الجهات والأطراف باستغلالها. أمّا الخوف الأكبر، فهو الخشية من إنتاج الفوضى، أيّاً تكن أسبابها، موجات لجوء جديدة من السواحل اللبنانية نحو الشواطئ الأوروبية عبر «رحلات الموت» التي تحمل لبنانيين وسوريين وفلسطينيين يائسين.
أضفى اتفاق الترسيم هدوءاً في الجنوب، يراه الغربيون بعينٍ حذرة، لكن مع قناعة بأن كل الأطراف المعنية، ولا سيّما المقاومة، تريد إنجاح الاتفاق وإيصال المسار إلى بدء أعمال الاستكشاف والحفر من دون عوائق، ما يجعل احتمال نشوب صراع جديد بالنسبة إليهم بعيداً في المدى المنظور. وإن بدا السلوك العام لحكومة الاحتلال الجديدة تجاه ملفات الصراع في فلسطين المحتلة أو مع إيران مقلقاً بالنسبة إلى الأوروبيين، إلّا أن هناك اقتناعاً بأن بنيامين نتنياهو سيحافظ على الاتفاق مع لبنان لتخفيف الضغط عن الجبهة الشمالية، للاستفراد بالفلسطينيين وزيادة الضغوط على إيران وسوريا.
وفي حين لا تزال السفارات الغربية تتابع عن كثب نشاط المجموعات الإرهابية ونشاط مكافحتها من قبل الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية، كوّن الغربيون صورة مفادها أن الجماعات الإرهابية فشلت في تشكيل بنية حقيقية في لبنان وإيجاد حاضنة فعلية للاستمرار في أعمالها وغياب الغطاء السياسي على عمل هذه الجماعات، مع وجود عدد من الأخصام المتنبهين على الساحة، من الجيش إلى الأجهزة الأمنية وحزب الله. هذه الخلاصة، تدفع الأجهزة الغربية إلى التقليل من خطر الإرهاب، واعتباره خطراً ثانوياً في الوقت الحاضر.
يبقى حديث الساعة لدى الغربيين في بيروت، الخوف من تدهور الوضع الاجتماعي نحو فوضى أمنية مسلّحة لأسباب اقتصادية – نفسية، مع وجود عدد من الأسباب المحليّة لاندلاع صراعات أهلية، على خلفيات مناطقية وطائفية وسياسية والصراع على الموارد والمصالح الضيّقة، مع انحسار تأثير الدولة.
وتأتي هذه المخاوف، بعدما تبيّن أيضاً للغربيين أن القوى السياسية اللبنانية الرئيسية غير مستعجلة لحلّ أزمة الفراغ الرئاسي والحكومي أو فرملة الأزمة المالية – الاقتصادية، حتى إن لم تكن ممثّلة ومطمئنة لحصتها من السلطة المقبلة. ويترافق الفراغ مع صعوبة حصول حركة شعبية في الشارع مشابهة لهبّة 17 تشرين، رغم تعاظم الانهيار الاقتصادي ووصول غالبية اللبنانيين إلى مستويات خطيرة من الفقر، ما يعزّز استخدام السلاح والأعمال الجنائية كوسيلة للتعبير الاجتماعي عن الغضب واليأس والسّعي وراء الموارد.
كذلك يتعزّز هذا الهاجس، مع إدراك الغربيين صعوبة الاستمرار في تمويل وجود النازحين السوريين في لبنان وتصاعد المنافسة بين اللبنانيين والسوريين وشحّ الموارد وازدياد التحريض السياسي ضد النازحين. وفي الوقت نفسه، يحاول الغربيون التكيّف مع وجود قرار أميركي بخنق سوريا، واستخدامها ساحة إضافية للتأثير على روسيا وإيران وتركيا. لكن لا تزال التقديرات الأوروبية تجاه الساحة السورية دون المستوى الحقيقي لحجم الأزمة، ودون تقدير أن وقوع سوريا على عتبة اهتزاز اجتماعي كبير، سيراكم أزمة النزوح في لبنان ويسهم في إشعال موجات لجوء جديدة نحو القارة الأوروبية.
وقوع سوريا على عتبة اهتزاز اجتماعي كبير سيراكم أزمة النزوح في لبنان ويشعل موجات لجوء جديدة نحو القارة الأوروبية
هذه الرؤية الأمنية تصطدم بالواقع السياسي الأوروبي، إذ يعترف أكثر من مصدر غربي لـ«الأخبار» بصعوبة اتخاذ قرار سياسي يتحدّى القرارات الأميركية، بخصوص سوريا تحديداً والنازحين السوريين في لبنان، ووجود أعداد إضافية من اللبنانيين والسوريين الذين تضيق بهم السبل. فضلاً عن أن بعض دول أوروبا، ولا سيما ألمانيا، لا تمانع حضور لاجئين جدد إلى الأراضي الأوروبية، شريطة أن يستوفوا «معايير الإنتاجية» والمواصفات العمرية، بخلاف ما تحمله «مراكب الموت» من هجرة عشوائية.
من هنا، يجد الغربيون مع كل هذه المخاطر، أن الاستثمار الناجح الأفضل هو الاستمرار في دعم الأجهزة الأمنية والجيش وتعزيز القوى البحرية للعب دور خفر الحدود المبكر للشواطئ الأوروبية، واتخاذ إجراءات أمنية إدارية ووقائية لحماية الطواقم الدبلوماسية، أملاً بحلّ قد يطول انتظاره، مع استمرار النّقاش حول ضرورة توجيه جزء من الدعم المالي المخصّص للبنان والمنظمات الحكومية نحو الدولة، أو ما تبقّى منها.