كتب وليد شقير في نداء الوطن:
سيبقى القضاء اللبناني خاضعاً للاختبار على مدى سنوات بعدما نخرته «سوسة» التسييس. اختبار الأيام الماضية مع وليام نون هو أحد الفصول والنماذج عمّا أصابه من أضرار ذلك التسييس وتداعياته. أصل واقعة وليام نون ومنبعها هو القرار السياسي الذي اتُخذ بعرقلة التحقيق في الانفجار الذي أودى بشقيقه في مرفأ بيروت مع سائر الضحايا الذين ناهزوا الـ220.
هذه الإختبارات ستتوالى. الإختبار القريب المنتظر هو اقتراب إنهاء التحقيق في جريمة قتل الجندي الإيرلندي العامل في إطار قوات الأمم المتحدة (يونيفيل) في الجنوب، والاعتداء عليه وعلى رفاقه بالرصاص والقتل العمد. مهما كانت الظروف والملابسات، سواء كان ما حصل في بلدة العاقبية الساعة 11:30 قبيل منتصف ليل 14 كانون الأول الماضي، مخططاً له أم جاء ابن ساعته، هناك جريمة وقعت.
والمسؤولية فيها تعود إلى التحريض المتواصل منذ أكثر من عقد من الزمن على من يقف وراء تعبئة البيئة التي تعمل فيها «يونيفيل» بأنّ جنودها «جواسيس لمصلحة إسرائيل». وهو الأمر الذي سبق أن أدّى إلى حوادث اعتداء على دوريات للقوات الدولية في الجنوب، ما زال مجلس الأمن يطالب السلطات اللبنانية بكشفها وجلب مرتكبيها إلى العدالة، كلّما اجتمع من أجل تجديد ولاية «يونيفيل».
إلى أن يفرج الجانب اللبناني عمّا توصّل إليه في تحقيقاته، يبدو من الوقائع الأولية التي جمعها الجانب الدولي، أنّ تسلسلها يمكن أن يقود إلى أن الحادث وقع من دون تخطيط مسبق له. لكنّ الجزم بذلك أو بعكسه يتوقف على إكمال القضاء اللبناني تحقيقاته.
بعض الجنود الإيرلنديين الذين كانوا في السيارتين اللتين انطلقتا من الجنوب إلى مطار بيروت تقلّان اثنين من رفاقهم من أجل السفر إلى بلدهما لأسباب حزينة هي وفاة في عائلة كل منهما، لم يكن قد مضى على حضورهم إلى لبنان للخدمة إلى جانب الوحدة الإيرلندية أكثر من 3 أسابيع، ومنهم الجندي القتيل شون روني، أي أنّ هؤلاء حديثو الخبرة في الوضع الجنوبي.
بعد انطلاقهم من منطقة عمليات القوات الدولية وإتمام الإجراءات الروتينية التي تشمل إبلاغ الجيش اللبناني بمهمة السيارتين، على حاجزه عند حدود نهر الليطاني، تابعت سيارتا الـ»لاند كروزر» سيرهما في الطريق المعتاد، الذي يقضي بعد بضعة كيلومترات، بسلوك مفترق ينقلهما إلى الطريق الدولي، الذي تسلكه عادة آليات «يونيفيل». السيارة التي كانت في المقدمة سلكت هذا الطريق، لكنّ السيارة الثانية التي كانت تقلّ الضحية روني ورفاقه لم تنتبه إلى سلوك السيارة الأولى هذا المفترق.
عتمة الطريق في تلك المنطقة ساهمت في ضياع الرؤية، لا سيما أنّ السيارة الثانية كانت تسير بسرعة أقل من سرعة سيارة المقدمة. عند وصول السيارة الثانية إلى العاقبية تنبّه الجنود الذين كانوا فيها إلى أنهم أضاعوا زملاءهم، وسلكوا طريقاً آخر، وحاولوا عبر جهاز الـ»جي بي إس» العودة إلى المسلك الذي يعيدهم إلى الطريق الدولي، لكنهم لم يفلحوا في الخروج من الطرقات الفرعية في البلدة، وبدا أنهم أخذوا ينعطفون ثم يعودون إلى المكان نفسه أي أخذوا يدورون في الرقعة الجغرافية ذاتها، والتي يجهلونها بالكامل. حاول شبّان في البلدة يستقلون سيارة، إيقافهم، لكنّ الخشية من التعرّض لهم دفعتهم إلى مواصلة طريقهم، إلى أن تمكّنت سيارة من تجاوزهم وإقفال الطريق عليهم من الأمام فيما حاصرتهم سيارة ثانية يستقلها مسلّحون من الخلف، فحاول السائق، الجندي روني الإفلات من هؤلاء بعدما كانوا صرخوا في وجهه، بعدم الامتثال والمناورة في القيادة، فصدمت سيارة «القبعات الزرق» إحدى السيارتين اللتين لاحقتهما، وأطلق بعض من في داخلهما النار عليها وفتح أحد المسلحين صندوقها الخلفي وأطلق النار على من في داخلها.
الجنود الثلاثة استطاعوا خفض رؤوسهم، وجاءت إصاباتهم في أجسادهم، فيما السائق، الجندي روني، الذي كان يحاول الإفلات بآليته من المسلحين ومن إطلاق النار بالإقلاع بها بعيداً عنهم، لم يتمكن من خفض رأسه كونه مضطراً للقيادة، فأصيب مباشرة في الرأس. حصول الحادث في سرعة لم يمكّن الجنود الثلاثة الذين نجوا من تحديد عدد المسلحين الذين طوّقوهم (إثنان تمكّنا من الإدلاء بإفادتهما لأن الثالث كان في وضع حرج ونقل إلى بلاده للمعالجة لاحقاً)، وعدد الذين أطلقوا النار.
من الوقائع أيضاً أنّ السيارة الأولى التي سلكت المفترق المؤدي إلى الطريق الدولي، والتي انفصلت عنها السيارة التي تعرّضت للرصاص في العاقبية، تنبّه الجنود الذين استقلّوها، بعد مسافة، إلى أنّ زملاءهم لم يلحقوا بهم نحو الطريق الدولي، فحاولوا العودة للبحث عنهم، لكن الصدف السيئة شاءت أن تصاب سيارتهم بعطل بسبب ثقب في أحد الدواليب، ما سبب تأخرهم فيما كان زملاؤهم ضاعوا في محاولتهم سلوك طريق العودة إلى أوتوستراد الجنوب – بيروت، وحصل ما حصل من مطاردة من قبل الشبان المسلحين…
وقائع كافية؟
هل تكفي هذه الوقائع للجزم بصحة فرضية أن الحادث غير مقصود وغير مخطط له مسبقاً؟ فهي مستقاة من الجنديين اللذين بقيا على قيد الحياة، من قبل المحققين الدوليين الذين لا يحق لهم الاستماع إلى اللبنانيين الذين تجمهروا حول آليتي «يونيفيل» وإلى المسلحين الذين لاحقوهما، والذين صدر الرصاص من أسلحتهم.
الأوساط المطلعة على أجواء قيادة «يونيفيل» تشير إلى أنها كانت المرة الأولى التي يكون فيها «حزب الله» أول المبادرين للاتصال بالقيادة من أجل إبلاغها أن لا علاقة له بالحادث، خلافاً لحوادث سابقة لم يكن يهتم للقيام بذلك، لكنّه هذه المرة أدان بسرعة ما حصل، وتوسّعت حملة التضامن مع القوات الدولية. ومهما كانت نتائج التحقيق اللبناني، فإنّ هناك مسؤولية معنوية لـ»الحزب» يتحمّلها جرّاء التحريض المتواصل على «يونيفيل» بأنها تتجسّس لمصلحة إسرائيل، في وقت تعلم قيادته أنّ الدولة العبرية لا تحتاج إلى «القبعات الزرق» من أجل القيام بذلك طالما أنّ «الدرون» تجوب الجنوب كل يوم وتصوّر كل مناطقه، وبالموازاة هناك قناعة راسخة بأن لا شيء يحصل في الجنوب من دون علم «الحزب».
وتتوقع هذه الأوساط أن تصدر نتائج التحقيق قريباً، على أن يصدر عن «يونيفيل» بيان في هذا الصدد، وأن يعطي الجانب اللبناني في فحوى التحقيق تفسيراً لهذه العدائية التي تعاطى من خلالها المسلحون مع الجنود الإيرلنديين الموجودين في لبنان منذ العام 1978 (وفقاً للقرار الدولي الرقم 425) أي منذ الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب، وبناءً على طلب الحكومة اللبنانية مساعدتها على حفظ الاستقرار في الجنوب. وسبق للجيش الإيرلندي أن خسر منذ أواخر السبعينات حتى تاريخ الحادث زهاء 46 جندياً قتلوا أثناء تأدية مهماتهم في جنوب لبنان. ومع ذلك بقيت إيرلندا من أكثر الدول تعاطفاً مع لبنان.
دول «يونيفيل»
هل سيؤثر مقتل الجندي الإيرلندي على مواقف دول مشاركة في «يونيفيل»، وبعضها عضو في مجلس الأمن؟ لا أجوبة واضحة في هذا الصدد لكن هناك حاجة ملحّة لأن يعطي الجانب اللبناني أجوبة قبل زيارة وزير الدفاع الإيرلندي سيمون كوفني إلى لبنان قبل نهاية الشهر الجاري بإخراج التحقيق إلى العلن. لكن حادثاً من هذا النوع لا بد من أن يلقى استثماراً من بعض الدول التي تتربص بلبنان، على رغم أنّ التعليق الإسرائيلي عليه كان «منخفض» اللهجة قياساً إلى أحداث سابقة. وينتظر أن يتضح الأمر في اللقاء الثلاثي الروتيني، بين «يونيفيل» وجيشي لبنان وإسرائيل في الناقورة مطلع شهر شباط المقبل.
ويسود الاعتقاد لدى أوساط مطلعة على موقف قيادة القوات الدولية أنّ توقيت ما حصل يناقض المناخ الإيجابي الذي أعقب اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والذي يمهّد لمباشرة لبنان استكشاف حقول الغاز والنفط في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان حيث إنّ الشركات المستثمرة بموازاة بدء العمليات في عرض البحر، تحتاج إلى الاستقرار والهدوء، وأنّ السلاح المنتشر بين اللبنانيين لن يمسّ أمنها وأمن العاملين معها، بدل الانطباع أنها تقبل على مخاطرة.