هي اللحظة التالية لنهاية فيلم، أو الفراغ من قراءة كتاب أو نص، أو آخر جملة موسيقية في أغنية. لحظة شعور صافٍ بالإشباع، متعة مؤقتة، يتشبث المدمن بزمنها القصير، يعيشه كما يعيش المُخدّر، يحاول تشرّبها قبل أن تزول.
لحظة التقاط الجودة. هذه هي. الجودة، التي ليست بالضرورة كمالاً، فالكمال اقتصر على الخالق، وهذا من حظنا. جودة فيلم العرّاب مثلاً. أداء مارلون براندو فيه. رواية “مئة عام من العزلة”. كورنيش المنارة صباح أحد ماطر. موسيقى زياد الرحباني. صوت فيروز. جنود الرّب.
جنود الرب ليسوا صدفة. هم، في عصر القحط الذي يعيشه لبنان، أقرب إلى نعمة من السماء علينا، تعيننا على احتمال الحياة. ليسوا صدفة. الصدف عشوائية. هؤلاء كأنهم صُنعوا في إيطاليا، حيث تتحول المواد الخام، الجلود والمعادن وغيرها، إلى تحف، سيارات ساحرة وحقائب نسائية لا يقدر بثمن الرقي والأناقة والفن الذين تتركها أيدي الإيطاليين عليها.
جنود الرب لا يقدرون بثمن. مجموعة من الرجال الفائضي الذكورة والإيمان ربحتها شوارع لبنان، وخسرتها أزقة أسبانيا في مواسمها الاحتفالية. الآن ينبغي على وزير الثقافة القاضي محمد المرتضى أن يبادر سريعاً إلى إعلانهم فرقةً ذات طابع تراثي، كي لا تجرؤ يد على تفريقهم، أو بالأحرى هدمهم أو إتلافهم. حرامٌ على لبنان ألّا تحفظ هذه الفرقة النادرة في المكتبة الوطنية أو في محمية طبيعية. لا تخرج من مكانها الآمن إلا محاطة بحماية شديدة، وباحتفالات جماهيرية، كتلك التي رافقت مومياوات الفراعنة في انتقالها مؤخراً من متحف الى متحف. جريمة بحقنا ألا يجول هؤلاء على جامعات لبنان ومدارسه وحضاناته، يثقفون النشء بعروض آكشن مبهرة. يتبارون في تفتيت أقواس قزح حجرية. يسحقون قوالب حلوى ملونة. يحطمون السلالم ويلتهمون الأفاعي في لعبة السلم والحية. يلقون محاضرات توعوية بأصواتهم المميزة دائماً تتألف من جملة واحدة مكررة: نحنا جنود الرب! نحنا جنود الرب!
جنود الرب هم الآن أقصى حالات الجودة اللبنانية. شفافون وواضحون. متخففون من أثقال الآخرين كلها. ليسوا بحاجة مثلاً إلى الاجتهاد والبحث في قاموس محدود للغة لصياغة عبارات ركيكة يرفقونها بلوحات من أسوأ ما رُسم، كما يفعل المرتضى في حربه المفتوحة دفاعاً عن القيم والعادات. ليسوا بحاجة إلى تبرير ليكونوا نازيين جدداً. هم نازيون جدد على رأس السطح. ليسوا بحاجة إلى ادعاء الرصانة التي ادعتها دار الفتوى الإسلامية وهي تنزلق إلى تقديم أخبار لدى القضاء ضد نور حجار، بناء على مشهد مقتطع من فيديو عمره خمس سنوات. دار الفتوى التي لو تعلم أي آراء ينشرها لبنانيون على وسائل التواصل، يتبادلون فيها النقاش الرزين حول الصحابة وأم المؤمنين من جهة، والعادات العاشورائية من جهة ثانية. لو تعلم دار الفتوى، وهي على الأرجح تعلم، لما استقوت على الكوميدي الشاب، لغضت النظر عن نور فقط كي لا تضيف عباءة مؤسسة دينية رصينة على الترهيب المرعب الذي يعيشه منذ أيام من المؤمنين بالله أو بالجيش، أو بالإثنين معاً. نور الذي وجد نفسه فجأة في مواجهة أكبر مؤسستين في البلد، واحدة دينية والأخرى عسكرية، ومعهما جحافل الوطنيين والأتقياء. والمؤسستان، وخلفهما وأمامهما الجحافل، قررتا ألا تضحكا للكوميدي، مع أن البلد برمته يعيش في ضحكٍ متواصلٍ من شر البليّة، لا دخل لنور حجّار به.
كان الأجدى بدار الفتوى، ومؤسسة الجيش، والمرتضى، والجحافل، أن يتركوا أمر نور حجّار لجنود الرّب. وكل ما عليه فعله هو عدم الذهاب إلى بيروت الشرقية (شرقية وغربية!). لن تخذله ذاكرة جنود الرب. لن تكون أعلى من معدل ذكائهم يمارسون حياتهم به علناً في المجتمع. سينسون نور في اليوم التالي، حتى لو قرأوا هذه السطور، وعرفوا الحيلة المقترحة على نور، والتي لن تتحقق، لأن المؤسستين الكبيرتين، وجحافل الطهرانيين، والمرتضى، لم يتركوا نور لجنود الرّب، لسوء الحظ، أو لحسنه، لا ندري.
لا ندري فعلاً. هذا بلد بات المنتج الأكثر جودة فيه، فخر صناعته المحلية، هو جنود الرّب. الصناعة التي للأسف لا يمكن تصديرها لأنها كنز وطني، لكن يمكن حتماً الإفادة منها في السياحة، عبر وضع الجنود على ملصقات عملاقة على طريق المطار، وتسمية أطباق لبنانية أصيلة بأسمائهم، وأخذ السياح الأجانب في رحلات ترفيهية إلى أماكن تجمعاتهم، حيث يمكنهم التقاط صور تذكارية مع الجنود، وتسجيل فيديوهات للأصوات الخرافية التي تخرج من وجوهمم وهم يدمرون أماكن إبليس ويلقمون عبّاده دروساً في معاني التسامح. من يعلم، قد يكونون هم الثروة الطبيعية الوطنية التي تنقصنا، وهي متوفرة ومجانية، ولا نحتاج إلى أي جهد أو تكلفة لاستخراجها من باطن البحر. ففي آخر المطاف، من كان جنود الرب نخبته، لا حاجة له لا إلى غاز ولا كهرباء ولا حضارة. يكفيه الجنود. المهم ألا يسقط نيزك آخر كذاك الذي لم يبق بعده ديناصور يُخبّر.