سلايداتمقالات

أحبوه كي يحبكم..

كتبت: كفا عبد الصمد
لبنان بلد لا يعرف انصاف الحلول، إما أن تعشقه، وهذا حال الأغلبية، وإما أن تنفر منه، وترحل بعيدا عنه دون عودة.. يعيش هذا البلد في دائرة من الظلام، تحاصره المشاكل من الداخل كما من الخارج، هو في قلب العاصفة وأحيانا كثيرة يكون العاصفة بذاتها، لكن رغم كل هذا الجو الغامض والقاسي والمشرذم، يبقى هناك نافذة أمل تأتيك من حيث لا تدري.. لن أتحدث في السياسة، ولا أدعي نبوءة وأجزم بأن الفرج قريب، لكني افضفض بكلمات عابرة مشاعر غريبة، لا أعرف مصدرها.. هل هي ذكريات الطفولة وتفتح براعم الشباب، أم أنه سر لا يفقه إلا من حاول دوما حل أحجية مستعصية أسمها لبنان..
في زيارة سريعة وخاطفة الى بعلبك مدينة الشمس، استعدت شيئا من إيماني المطلق بأن هذا البلد وعلى رغم علاته ومشاكله التي لا تنتهي، فيه لغزا يجذبك اليه، شعورا يعزز مبدأ الجاذبية الذي يؤسس لعلاقتنا بالأرض، انها علاقة من نوع آخر. وكأن من سبب وجودنا مارس علينا سحرا ابديا، كي نكون جزء من هذا الكيان، وطن يعيش في أرواح مواطنيه لا العكس..
بدت كما نعرفها دائما، شامخة، أبية، تحاكي الحاضر، وتختصر الماضي، تروي حجارتها الكبيرة والمبعثرة أمجادا، وبين أعمدتها تاريخ لا ينام، وكي تزداد روعة، يشعرك صوت فيروز الصادح بأن في يوم من الأيام، كان لهذا الوطن هوية وكان هناك انتماء.. انها قلعة بعلبك، تحاكي الطفل في داخلنا وتعيدنا إلى رحلات المدرسة، حين كنا طلابا، نفرح بالرحلة لا بحثا عن المعرفة والجذور بقدر ما هي للترفيه والتسلية والخروج من إطار العلاقة الرسمية مع الأستاذ والناظر والمدير.. هذا ما اعتقدته دوما، لكن حين وصلت القلعة، وبعد ردة فعل ابني، طفل في التاسعة من عمره، حين دخل وسرح بين الأعمدة و”عربش” على الحجارة الكبيرة، وأصر على التقاط الصور من هنا وهناك وفي كل مكان، شعرت بأن هذه الأماكن التاريخية القديمة، هي التي تعزز ارتباطنا اكثر بهذا الوطن، وتؤكد أن لبنان في وجدان الصغير كما الكبير، أكبر من إنتماء وأعظم من جنسية.. أحب المكان وتعرف على صوت فيروز، وأمطرني بوافر من الأسئلة، عجزت عن الإجابة عنها، ليس لعدم امتلاكي الجواب بل بفعل الصدمة الذي سببته دهشتي ببريق عينيه وهو يتجول داخل القلعة، مبهورا، سعيدا، ممتنا أنه ولد في بلد تحمل أرضه مثل هذه الأماكن..
لا شك أن هناك الكثير الكثير من الأماكن المبهرة في العالم، لكن بالتأكيد لن يكون لنا فيها هذا الارتباط الوثيق، نزورها مرة ونحفظها في ذاكرة هواتفنا صورا، تحمل لحظات سعادة عابرة، ونكتفي بزيارتها مرة واحدة، لكن إصرار إبني على العودة إلى بعلبك مرة ثانية، يؤكد المؤكد، بأن الوطن ليس مجرد منزل ووظيفة وحياة مستهلكة، هو هذا البريق الذي يلمع في أعيننا صغارا كنا أم كبارا عندما ترى أماكن تمزج التاريخ بالمستقبل، هو تلك المشاعر التي توقظها في داخلنا الأغاني والألحان، هو وببساطة حب بالفطرة لا نحتاج إلى تعلمه، فقط نحتاج إلى صقله وتنميته حتى يؤدي دوره المطلوب..
لبنان ليس مجرد قطعة سما، هو حفنة من الذكريات وكثير من الآمال، هو الرغبة في البقاء على خارطة الوجود، مشرقا مشعا، وشامخا كأعمدة بعلبك التي لا تنام..
استغرب عندما يرفض شابا في مثل هذه الأوضاع التي نمر بها، جواز سفر أجنبي، وأهمس في صمتي أنها مبالغة غير مقنعة، عندما اسمع بأن أحدا يرفض عرضا، أو لا يفكر بالسفر والهجرة، لكن بعد يوم طويل في بعلبك عرفت أن الانسلاخ عن الوطن جريمة نرتكبها بحق أنفسنا وبحق أولادنا.. يكفي أن تزور مثل هذه الأماكن حتى تعرف مدى أهمية ذلك في تنمية الروح الوطنية في ولدك، ولا اتحدث فقط عن جمالية المكان، بل أيضا عن روعة السكان، يتسابقون لاحتضانك، يشعرونك بأنك ابن مدينتهم ولست مجرد ضيف. يستقبلونك بالابتسامة واهلا وسهلا لسان كل من تصادفه. هذا ما كنت ابحث عنه في لحظة قاسية ظننت فيها أني أخون نفسي وافكر في الابتعاد.
لبنان أكثر من مجرد وطن، علموا أولادكم كيف يحبونه، أحبوه كي يحبكم، دعوهم يتعرفون على اصالة سكانه وعظمة مناطقه، اكثروا من زياراتكم الى اماكنه الساحرة، هي كفيلة بتعليمهم ابجدية حبه، ثقوا به حتى يثقون به ويقدمون له ما يستحقه في المستقبل.. لهم الغد، وهم أصحاب اللعبة السياسية، علموهم كيف يحافظون عليه، ويفتخرون باسمه، استعيدوا مجده من خلالهم، فما تكتنزه ذاكرتكم من صور جميلة كفيلة بزرع بذور وطن سليم متعافي ومشرق..
لهم المستقبل ولنا الدور الأهم في جعلهم نواة تغيير ونظام واستقامة.. يستحق لبنان هذه التضحية ويستحق ابناءنا وطن بهذا الجمال..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى