كتب منير الربيع في صحيفة المدن:
يذكر الديبلوماسي الأميركي، ديفيد هيل، في كتابه عن العلاقات الأميركية اللبنانية، أسباب اهتمام بلاده بلبنان. وهنا نذكر ما يرد في الكتاب بتصرف، لناحية المضمون، إذ يتحدث الرجل عن الصداع الذي يتسبب به لبنان للقوى الدولية، نتيجة الصراعات المتوالية والدائمة التي يعيشها أفرقاؤه السياسيون فيما بينهم. وبالتالي، فإن الاهتمام ينطلق من اعتبار البلد الصغير ساحة تجاذب إقليمي، تحتاج واشنطن للحضور والتأثير فيها، انطلاقاً من مصالحها الاستراتيجية الكبرى. لا يخفي الكتاب حجم الصراعات بين القوى الداخلية، وهي صراعات لا تنتهي. وما هو معروف بالنسبة للجميع أن تركيز الولايات المتحدة في لبنان ينطلق من حسابات تتصل بتوفير الأمن والاستقرار لإسرائيل، بالإضافة إلى دعم الجيش اللبناني والعلاقة الاستراتيجية معه، إلى جانب الاهتمام المالي، انطلاقاً من العلاقة الأساسية مع المصرف المركزي والقطاع المصرفي ككل.
معادلة الاستقرار والأمان
يمكن الوصول إلى خلاصة أساسية بناء على هذا الكلام، مفادها أنه في حال تلبية هذه الثوابت بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فلا تعود أميركا مهتمة بأي صيغة حكم أو أي شخص يصل إلى السلطة ويتسلمها. وللتخلص من الصداع اللبناني أميركياً، كان إيكال الملف إلى حافظ الأسد في حقبتين منفصلتين، الأولى في العام 1973 بناء على نظرية هنري كيسنجر يومها. والثانية بعد حرب الخليج الثانية، وانخراط النظام السوري في محاربة العراق وإخراجه من الكويت، فكانت هدية الأسد إيكاله الملف اللبناني مجدداً.
حالياً، أبرز ما تهتم به الولايات المتحدة الأميركية على صعيد منطقة الشرق الأوسط ككل، ولبنان ضمناً، هو توفير الأمن والاستقرار، ولا سيما في البحر الأبيض المتوسط، والاستمرار في فتح مسار التطبيع مع إسرائيل. أما من لا يريد سلوكه، فيتوجب عليه الالتزام بمعادلة الاستقرار والأمان، وهذا المسار الذي كان يتم العمل عليه منذ سنوات، وتحديداً مع الوصول إلى ترسيم الحدود البحرية، وما كان يعمل عليه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين للانتهاء من تثبيت الحدود البرية، إلا أن الأوضاع كلها انفجرت بعملية طوفان الأقصى، وفتحت الجبهات ككل، بما فيها الجبهة اللبنانية.
شرطي المنطقة
حالياً، يستمر العمل الأميركي في سبيل الوصول إلى إعادة تثبيت الهدوء والاستقرار وإطلاق مسار تثبيت الحدود وتطبيق القرار 1701. ولكن في الموازاة فإن الصداع اللبناني مستمر بالنسبة للأميركيين وغيرهم، بسبب الخلافات والصراعات المستمرة، والتي تنعكس انقسامات سياسية تحول دون إعادة تشكيل السلطة وانتخاب الرئيس. علماً أن هوكشتاين كان قد أكد أمام كل الذين التقاهم، ضرورة الذهاب إلى انجاز تسوية تواكب التطورات في المرحلة المقبلة.
هنا يبرز صراع وتنافس إقليمي على لعب دور ملتزم أمن المنطقة واستقرارها، أو شرطي المنطقة. وهو طموح إيراني دائم ومستمر لتكرار تجربة كانت أيام الشاه. وهذا له انعكاس على الصراع المفتوح اليوم من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، على وقع مفاوضات أميركية إيرانية، في سبيل إعادة تثبيت الاستقرار والتهدئة. فيما تسعى إيران إلى الاعتراف الأميركي بنفوذها وقوتها وتكريسها. وهذا ما تريد له أن ينعكس في لبنان أيضاً.
الابتعاد السعودي
لم يتسبب لبنان لأميركا فقط بالصداع، بل إن صراعات اللبنانيين وخلافاتهم التي لا تنتهي، تسببت بصداع لدول أخرى كالمملكة العربية السعودية، التي تعتبر أن اللبنانيين دائمو الدوران في حلقة مفرغة، ويكررون التجارب والنزاعات السياسية نفسها من دون إحداث أي تغيير. وهذا ما يدفعها إلى الابتعاد وعدم الانخراط باليوميات التفصيلية. وترهن عودتها واهتمامها بحصول تغيير جدي وحقيقي في المقاربات السياسية والإقلاع عن النزاعات. لا سيما أن كل طرف من اللبنانيين ينظر إلى حلفائه الإقليميين وكأن الدولة الحليفة حكراً عليه وتعمل عند حساباته. بناء على وجهات النظر هذه، كانت هناك جهات تفكر في إعادة تلزيم الملف اللبناني لإحدى القوى الإقليميةز وهنا برزت قبل سنوات فكرة إعادة تلزيم لبنان للنظام السوري في فترة الانفتاح العربي على دمشق. علماً أنها فكرة غير واقعية وغير قابلة للتطبيق، ولا قدرة للنظام السوري على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
الإعجاب بالحزب
هذا التلزيم الذي تطمح له إيران في المنطقة ككل، هناك من يعتبر أنه سيكون من نصيب حزب الله مجدداً، بناء على معطيات متعددة، أبرزها أن الاتفاق على تسوية في الجنوب وإعادة الهدوء، سيكون مبنياً على تفاهمات مع الحزب حصراً. وهذه سيكون لها تبعات سياسية، ربطاً بالمساعي الانفتاحية التي يقوم بها الحزب على بعض الدول العربية.
كل هذا الأداء، يحظى -حسب ما تقول مصادر متابعة- بإشادة أميركية في أداء الحزب. وبعض المسؤولين الأميركيين يعبرون عن إعجابهم بالأداء الواقعي والبراغماتي والعقلاني للحزب في إدارة معركة الجنوب، من دون الخروج عن الضوابط وبدوزنة ضرباته على ميزان دقيق. ويشير هؤلاء إلى قدرة الحزب على التماهي مع التحولات والمتغيرات انطلاقاً من براغماتيته. وبذلك، هو لا يظهر أي تشابه مع تنظيمات الإسلام السياسي السنّية، ما يدفع الأميركيين إلى التعبير عن القدرة على التفاهم معه بشكل مباشر أو غير مباشر، والتقاطع على جملة أحداث وأهداف.
هذا الموقف الأميركي الذي أصبح يتم التعبير عنه، لا ينفصل كثيراً عن ما قاله آموس هوكشتاين ذات مرة، بأنه لا مانع من إظهار حزب الله بموقع المنتصر لبنانياً، طالما أن الغاية والهدف قابلان للتحقق على المستوى الاستراتيجي.