سلايدات

حكومة لبنان الجديد..

كتب قاسم يوسف في اساس ميديا:

نوّاف سلام مناورٌ من الطراز الرفيع. أعطى في مستهلّ مشواره انطباعاً لا لبس فيه عن حالة متفاقمة من الارتباك والضياع، قبل أن يُباغتنا بتشكيلة حكومية من عيون السياسة، وحاله في ذلك حال الرئيس المخضرم الذي جلس ذات مرّة في مؤخّرة الصفوف، ثمّ قال لمن يريد أن يسمع: حيث أجلس أنا يكون رأس الطاولة.

 

هذه حكومة لا غبار عليها. ولو كان لنا أن نستند إلى انطباعنا الأوّل، لقلنا إنّها واحدة من أفضل الحكومات التي تشكّلت منذ اتّفاق الطائف، وأصل هذا التصنيف لا يستند إلى شكل الحكومة أو هويّة وزرائها وحسب، بل أيضاً إلى مضامينها العميقة، حيث أطاحت جملة من الأعراف والثوابت التي استحالت أمراً واقعاً لا فكاك منه.

أوّل القطف السياسي كان في الإسقاط المزدوج للثلث المُعطّل وللميثاقية بمفهومها الملتوي، وهذا إجهاز سياسيّ كامل وموصوف على كلّ مفاعيل السطوة العسكرية في السابع من أيار، وما نتج عنها من تقريش سياسي في اتّفاق الدوحة، وهكذا أعادت هذه الحكومة البلاد إلى ما قبل إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011، ثمّ إلى ما قبل غزوة بيروت والجبل عام 2008، ثمّ إلى ما قبل استقالة الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة عام 2006.

هذه حكومة لا غبار عليها. ولو كان لنا أن نستند إلى انطباعنا الأوّل، لقلنا إنّها واحدة من أفضل الحكومات التي تشكّلت منذ اتّفاق الطائف

هذا الكسر الكبير للموروثات والأعراف والأمر الواقع لا ينحصر فقط في المرحلة التي بدأت عقب إخراج سوريا الأسد من لبنان، بل يمتدّ إلى غالبيّة الحكومات التي تشكّلت بعد اتّفاق الطائف، وهي حكومات تمّ حشوها بالودائع والمخبرين وصغار النفوس، وكانت تتشكّل في غالبيّتها من أسماء معلّبة تأتي من دمشق، أو تُصاغ في عنجر. وقد عانى رفيق الحريري مرارة ما بعدها مرارة، تبلورت بشكل واضح وحاسم في حواره المشتعل مع وليد المعلّم، أثناء لقائهما الأخير في قريطم، قُبيل اغتياله بأشهر قليلة.

لبنان الجديد

تجاوز المناور البارع نوّاف سلام عقبة التمثيل الشيعي ووزارة المال بهدوء وحنكة شديدين، وقد استند في هذا التجاوز إلى أسباب موضوعية ووطنية، بعيداً من منطق الشعبويّات والرؤوس الحامية. أوّل تلك الأسباب يتعلّق بالطائفة الجريحة التي لا يودّ أن يسكب مزيداً من الملح فوق جرحها، وليس من الحكمة أن يفعل. وقد جاء هذا الاستيعاب وهذه الليونة بالتوازي مع الاستحواذ على الشيعي الخامس، والحديث الحاسم عن منع احتكار الوزارات، وهو ما يعني أنّ الخطوة الراهنة لا تؤكّد عُرفاً بقدر ما تؤسّس لمداورة لا يُستثنى منها أيّ طرف. لكنّ ذلك كلّه كان مرهوناً باسم حامل الحقيبة، وياسين جابر اسم علم، ليس في لبنان وحسب، بل تمتدّ سيرته الطيّبة إلى مُجمل عواصم القرار.

تجاوز المناور البارع نوّاف سلام عقبة التمثيل الشيعي ووزارة المال بهدوء وحنكة شديدين، وقد استند في هذا التجاوز إلى أسباب موضوعية ووطنية

الحكومة بشكلها الراهن هي أولى الحكومات التي تستند إلى جوهر الدستور، وأولى الحكومات التي تخلو من الوصايات التقليدية الغليظة، وأولى الحكومات التي يحضر فيها الطرف اللبناني مؤثّراً حقيقياً وصانعَ حدث. وهذه كلّها تُضاف إلى خطاب قسمٍ لم نشهد له مثيلاً منذ عقود طويلة، وإلى روحيّة مختلفة تجعل منها حكومة استثنائية، لا تواكب المرحلة المقبلة وحسب، بل تؤسّس المدماك الأوّل في لبنان الجديد.

لبنان الذي كان يشبه هؤلاء الوزراء ونجاحاتهم وسِيَرهم الذاتية، وبعضهم ينتمون إلى قماشة أندر من الزئبق الأحمر، ويأتون من كلّ حدب وصوب، ويجلسون إلى طاولة مثقلة بملفّات لا تنتهي، فيما المطلوب منهم أن يتجاوزوا كلّ الصعاب، وأن يُقدّموا مع رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية تجربة ناصعة ومميّزة، بل ومختلفة تماماً عن كلّ التجارب السابقة. فهذا هو الأمل الأخير لإخراج لبنان من النفق المظلم الذي يرقد فيه منذ أكثر من نصف قرن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى