الأجهزة الأمنية وحزب الله: مسؤولية التقاعس وسبل المواجهة

كتب العميد المتقاعد د، وسام صافي:
لطالما شكّل النفوذ المتنامي لحزب الله داخل الدولة اللبنانية، بكل أبعاده السياسية والعسكرية والأمنية، تحديًا وجوديًا يهدد كيان الدولة ويعوق إمكانية استعادة السيادة الوطنية، وهو نفوذ لم يكن ليصل إلى هذا الحد لولا التراكمات التاريخية التي اتسمت بتخاذل رسمي مستمر، وتساهل واضح من قبل الأجهزة الأمنية، وتواطؤ ممنهج من قبل السلطة القضائية، فضلاً عن القوى السياسية التي إما وجدت في الحزب أداة لحماية مصالحها وتحصين نفوذها أو ارتضت الخضوع له خوفًا من الاصطدام به، الأمر الذي أدى إلى تمكينه وتعزيز قدراته العسكرية والأمنية إلى درجة أصبح معها دولة داخل الدولة، يتحكم بمفاصل القرار، ويفرض إرادته على المؤسسات، ويمتلك من الموارد والقدرات ما يجعله قادرًا على تقويض أي محاولة لاستعادة الدولة لسلطتها، مما يفرض التساؤل عن الدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية في هذا التمكين، سواء من خلال التواطؤ المباشر أو التخاذل غير المباشر، ويستدعي البحث في السبل المتاحة لكبح نفوذه ووضع حد لتفوقه العسكري والأمني واستعادة سيادة الدولة على كافة أراضيها.
أولًا: مسؤولية الأجهزة الأمنية في تمكين حزب الله
لم يكن لحزب الله أن يتمكن من بناء ترسانته العسكرية وتوسيع نفوذه الأمني داخل لبنان وخارجه لولا وجود بيئة مؤسسية سمحت له بذلك، حيث لعبت الأجهزة الأمنية، سواء عن قصد أو نتيجة لقصور في الأداء، دورًا أساسيًا في توفير المناخ الملائم لنمو قدراته وترسيخ سيطرته، وهو ما يمكن رصده من خلال عدة محاور رئيسية تتمثل في التراخي في ضبط الحدود وغياب الرقابة على تهريب السلاح، والتواطؤ أو العجز عن مواجهة تمدده الأمني داخل مؤسسات الدولة، والافتقار إلى الإرادة الحقيقية لممارسة سلطة الدولة داخل المناطق التي يسيطر عليها، فضلًا عن خضوعها لضغوط سياسية حالت دون اتخاذ أي إجراءات جدية للحد من نفوذه أو محاسبته على انتهاكاته.
التراخي في ضبط الحدود والسماح بتهريب السلاح
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية، لم تتمكن الأجهزة المعنية بحماية الحدود اللبنانية، رغم امتلاكها للقدرات التقنية والبشرية الكافية، من منع تدفق الأسلحة والذخائر القادمة عبر المعابر غير الشرعية، لا سيما على الحدود الشرقية مع سوريا، حيث استفاد حزب الله من هذا التراخي في بناء شبكة تهريب متكاملة سمحت له بتطوير ترسانته العسكرية وتعزيز قدراته اللوجستية، وذلك في ظل تغاضٍ متعمد أو تواطؤ من قبل بعض العناصر داخل المؤسسات الأمنيالتي، إما بدافع الولاء الأيديولوجي أو نتيجة الخضوع للضغوط السياسية، امتنعت عن القيام بواجبها في منع تهريب السلاح أو ضبط قنوات الإمداد التي يستفيد منها الحزب لترسيخ تفوقه العسكري على الدولة.
التواطؤ مع تمدد الحزب أمنيًا داخل الدولة
لم تقتصر مسؤولية الأجهزة الأمنية عن تمكين حزب الله على السماح له بتطوير ترسانته العسكرية، بل تعدت ذلك إلى التغاضي عن نشاطه الأمني داخل مؤسسات الدولة، حيث تمكن الحزب، بفعل هذا التواطؤ أو العجز، من إنشاء بنية أمنية موازية أصبحت تعمل بفعالية تفوق تلك التي تمتلكها المؤسسات الرسمية، إذ بات يتحكم في بعض الأجهزة أو يؤثر على قراراتها، بل وصل الأمر إلى حد تسليمه ملفات أمنية حساسة، كما حدث في تحقيقات تفجيرات الضاحية الجنوبية عام 2013، حين أُتيح للحزب الاطلاع على مسار التحقيقات والتدخل في سيرها، مما عزز دوره كجهة أمنية قائمة بذاتها وأضعف في المقابل سلطة الدولة وأجهزتها الرسمية التي باتت غير قادرة على التصرف باستقلالية تامة في القضايا المتعلقة به.
الفشل في فرض سلطة الدولة داخل مناطقه
إضافة إلى هيمنته على المؤسسات الأمنية والقضائية، استطاع حزب الله تحويل المناطق التي يسيطر عليها إلى ملاذات آمنة خارجة عن سلطة الدولة، حيث باتت الأجهزة الأمنية عاجزة عن تنفيذ أي إجراءات داخل هذه المناطق، سواء تعلق الأمر بمذكرات توقيف صادرة بحق مطلوبين، أو بملاحقة عناصر متورطة في عمليات تهريب، أو بفرض سلطة القانون على النشاطات غير الشرعية التي يديرها الحزب، لا سيما في البقاع والضاحية الجنوبية، حيث تشهد هذه المناطق عمليات تهريب أسلحة ومخدرات وأعمال تهريب أموال على نطاق واسع، دون أي تدخل جدي من الدولة، ما يعكس حجم الاختراق الذي تعرضت له المؤسسات الأمنية، سواء بسبب الضغوط السياسية التي تمنعها من التحرك، أو نتيجة تغلغل الحزب داخلها بما يسمح له بتعطيل أي إجراءات لا تصب في مصلحته.
ثانيًا: مسؤولية السلطة السياسية والقضائية والأحزاب
لم يكن من الممكن لحزب الله أن يصل إلى هذا المستوى من السيطرة لولا البيئة السياسية والقضائية التي وفرت له الغطاء اللازم لاستمراره وتوسعه، إذ أن القوى السياسية التي دخلت معه في تسويات متكررة، بدءًا من اتفاق الدوحة عام 2008 وصولًا إلى التفاهمات التي تلت الفراغ الرئاسي عام 2016، ساهمت بشكل مباشر في إضفاء الشرعية على وجوده ككيان عسكري موازٍ للدولة، في حين لعب القضاء دورًا سلبيًا في تعطيل أي محاولة لمحاسبته، سواء عبر التهاون في فتح ملفات الجرائم والاغتيالات التي ارتكبها، أو من خلال التغاضي عن عمليات تهريب الأموال والمخدرات التي تديرها شبكاته، بينما اختارت بعض الأحزاب السياسية التواطؤ معه طمعًا في تحالفات تضمن لها البقاء في السلطة، فيما آثرت أخرى تجنب الصدام معه خوفًا من تبعات المواجهة، ما أدى إلى ترسيخ واقع بات فيه حزب الله متحكمًا ليس فقط بالأمن والسياسة، بل أيضًا بالقضاء والاقتصاد ومفاصل الدولة كافة.
ثالثًا: كيفية المواجهة
في ظل هذا الواقع المعقد، لا بد من تبني استراتيجية وطنية واضحة تهدف إلى تفكيك عناصر القوة التي يستند إليها حزب الله في فرض سيطرته، وذلك من خلال اتخاذ خطوات جذرية تشمل إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لضمان استقلاليتها، وتحرير القضاء من الضغوط السياسية التي تعيق محاسبته، وتجفيف مصادر تمويله عبر فرض رقابة مشددة على أنشطته الاقتصادية، إلى جانب تفعيل الحراك السياسي والإعلامي لكشف حقيقة نفوذه وإعادة تسليط الضوء على ضرورة استعادة الدولة لسيادتها.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لضمان استقلاليتها
لا يمكن تحقيق أي تقدم في المواجهة ما لم يتم تحصين الأجهزة الأمنية ضد الاختراقات التي تعاني منها، وذلك عبر فرض رقابة مشددة على قياداتها، وتعزيز دور الضباط المستقلين القادرين على فرض القانون دون خضوع لأي ضغوط سياسية، بالإضافة إلى إجراء إصلاحات داخلية تضمن فصل هذه المؤسسات عن أي نفوذ حزبي يعيق عملها.
تحرير القضاء من الضغوط السياسية
يتطلب استعادة الدولة لسلطتها إعادة الاعتبار للقضاء كسلطة مستقلة قادرة على محاسبة المتورطين في عمليات التهريب وتبييض الأموال والجرائم الأمنية التي ترتكب تحت غطاء سياسي، وهو ما يستدعي اتخاذ إجراءات حازمة لمكافحة الفساد داخل الجسم القضائي وضمان عدم خضوعه لأي جهة سياسية أو حزبية.
تجفيف مصادر التمويل وفرض رقابة مشددة على الاقتصاد الموازي
يعد الاقتصاد غير الشرعي أحد أبرز عناصر قوة حزب الله، مما يستدعي فرض رقابة مالية صارمة على عملياته التجارية والمصرفية، وتعطيل شبكاته التي تستخدم المصارف وشركات الصرافة كواجهات لأنشطته، بالإضافة إلى فرض عقوبات على الأفراد والمؤسسات المتورطة في دعمه ماليًا.
خاتمة
إن المواجهة مع حزب الله ليست مستحيلة، لكنها تتطلب قرارًا وطنيًا حاسمًا، وإرادة سياسية جريئة، ودعمًا داخليًا وخارجيًا لإعادة فرض سيادة الدولة، وإلا فإن استمرار هذا الواقع سيؤدي إلى مزيد من تفكك الدولة وارتهانها لنفوذ الحزب