
كتب العميد المتقاعد وسام صافي في جنوبية:
عند طرح أي موضوع خلافي، حول كيفية حماية لبنان من الأخطار المحدقة، يتصرف ما تبقى من محور “الممانعة”، وكأن على اللبنانيين الخضوع لفحص دم يومي لإثبات عدائهم لإسرائيل، وكأن مجرد إبداء الرأي أو اقتراح مقاربة مختلفة، يُعد خيانة تستوجب الإقصاء والتخوين. الجميع في لبنان متفق على توصيف إسرائيل بالعدو، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في نهج “حزب الله” الذي يحتكر القرار الوطني ويجر البلد إلى خياراته السياسية التي تخدم المصالح الإيرانية، دون النظر إلى الأضرار الناتجة عن ذلك
لم يتعلم “حزب الله” من خسارته الحرب الأخيرة، بل يصرّ على تقديمها كإنجاز عسكري رغم أن الواقع يثبت العكس. انتهت الحرب باتفاق لوقف إطلاق النار، وهو في جوهره اتفاق استسلام سمح لإسرائيل باستكمال تدمير ما تبقى من الأبنية في البلدات الحدودية، إضافة إلى استمرار الاغتيالات العسكرية والأمنية والقصف الجوي للعمق اللبناني. ومع ذلك، لا يزال الحزب يروّج لرواية “النصر الإلهي”، فيما يدفع الشعب اللبناني وحده ثمن مغامراته العسكرية.
ضرب الاستقرار الداخلي ومنع الحياد السياسي
اليوم، ومع اشتداد الأزمة الداخلية، يحاول “حزب الله” تحريك شارعه وضرب الاستقرار الداخلي، لمنع أي محاولة لإقرار الحياد السياسي، كخيار استراتيجي للبنان. يرفض الحزب أي نقاش حول مبدأ “الأرض مقابل السلام” أو حلّ الدولتين، رغم أن هذا المبدأ تم إقراره في القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002. هذا السلوك لا يختلف عما قامت به “حماس” حين رفضت هذا الإعلان، ما أدى إلى تقويض السلطة الفلسطينية وإفشال مشروع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وكأنها – عن قصد أو غير قصد – تنفذ الرغبات الإسرائيلية التي ترفض التسوية السياسية.
على خطٍ موازٍ، يواصل “حزب الله” التملص من تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، خاصة فيما يتعلق بمنع أي وجود مسلح له شمال الليطاني، تمامًا كما فعل بعد حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن. يعيد الحزب اليوم تكرار المسرحية ذاتها، متمسكًا بخطاب “المقاومة للاحتلال” كمبرر لتجاوز القرارات الدولية، لكنه في الواقع يسعى لترسيخ معادلته الثابتة، التي تتيح له الانفراد بقرار السلم والحرب في لبنان. هذه السياسة، التي انتهجها لعشرات السنوات، مكنته من فرض شروطه السياسية والأمنية، والاستمرار في الحفاظ على مناطق سيطرته العسكرية، وتقويض سلطة الدولة فيها، مما يمنحه اليد العليا في إدارة المشهد الداخلي اللبناني وفق أجندته الإقليمية.
من خلال استعادة خطاب الحرب الأهلية والتخوين، يوظف الحزب هذه الأزمة لمهاجمة خصومه بأبشع الأساليب، مستخدمًا ماكينة الإرهاب الإعلامي المعتادة. كما يوجه الغضب الداخلي في بيئته نحو الحكومة، بدلًا من أن يواجه الأسئلة الصعبة حول مسؤوليته، عن توريط لبنان في حروب عبثية. وفي الوقت نفسه، يستعرض قوته العارية لإرهاب اللبنانيين كما فعل في محطات كثيرة سابقة، محاولًا فرض معادلاته بالقوة، رغم أن البلاد لم تعد تحتمل مزيدًا من المغامرات.
التلاعب الإيراني وإشعال الداخل اللبناني،
في ظني أن على خطٍ موازٍ، يواصل “حزب الله” التملص من تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، خاصة فيما يتعلق بمنع أي وجود مسلح له شمال الليطاني، تمامًا كما فعل بعد حرب تموز 2006 . فقد سربت للأميركيين الخبر الغريب عن حمل الطائرة ملايين الدولارات ل”حزب الله” في بيروت، ما دفع واشنطن إلى طلب منع وصولها، وهو أمر يدخل في إطار التزام لبنان بالقوانين الدولية، وباتفاقية وقف إطلاق النار التي أنجزها “الثلاثي” (بري – قاسم – ميقاتي).
كان من الضروري السماح هبوط الطائرة في مطار بيروت، وكان بالإمكان تفتيشها في بيروت وانكشاف الفضيحة. ليست هذه المرة الأولى التي تلعب فيها طهران هذه اللعبة، فقد سبقتها محاولات عديدة، أشهرها منع وزير الحزب علي حمية، طائرة إيرانية من الهبوط في بيروت في أيلول 2024. الهدف من هذه المسرحية هو إظهار إيران أمام جمهور الحزب كمن يفي بوعوده، بينما الحكومة اللبنانية هي التي تحرمهم من “المساعدات”، في حين يستغل الحزب القصة لإعادة تعبئة شارعه، وتأجيج حملة ضد العهد الجديد بهدف ابتزازه، وإضعافه وتعقيد المشهد اللبناني أكثر.
في الواقع، لو كانت إيران صادقة في دعم لبنان لإعادة الإعمار، فلماذا لا تقدم هذه الأموال عبر القنوات الرسمية أو عبر مشاريع واضحة لخدمة اللبنانيين؟ الحقيقة أن طهران لم تكن معنية بمساعدة لبنان، بقدر ما كانت تسعى إلى خلق مشكلة داخلية لإبعاد الأنظار عن تقاعسها في تقديم أي دعم حقيقي. والأخطر من ذلك، أن الاحتجاجات التي نظمت على طريق المطار لم تقتصر على التعبير عن الغضب، بل تطورت إلى اعتداء على قوات “اليونيفيل”، في خطوة تعكس محاولة واضحة لفرض معادلات جديدة وترهيب أي جهة دولية تحاول ضبط الأوضاع.
إيران، لا تزال تتعامل مع البلد كساحة صراع إقليمية، وليس كوطن لشعب يعاني من الانهيار. وبينما تبرع في خلق الأزمات، تبقى الحلول غائبة، مما يؤكد أن ما يجري، هو استغلال متعمد للأوضاع الداخلية لخدمة أجندتها، لا أكثر.
غياب المحاسبة والاستفادة من أخطاء الآخرين
لم يراجع “حزب الله” خياراته السياسية بعد خسارته الحرب، بل استغل موقف الفرقاء الآخرين الذين تجنبوا التشفي به، ولم يطالبوا بمحاسبته على الدمار البنيوي والسياسي الذي تسبب به. هذه السياسة الخاطئة سمحت للحزب بالاستمرار في فرض خياراته على اللبنانيين وكأنها قدر لا مفر منه. في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى إعادة تقييم شاملة لسياستها الدفاعية، لا يزال حزب الله متمسكًا برهاناته الخارجية التي ألحقت ضررًا هائلًا بلبنان.
في الخلاصه، لبنان ليس رهينة بيد محور الممانعة، ولا يمكن أن يبقى أسيرًا لسياسات مغامرة لا تخدم مصالحه الوطنية. المطلوب اليوم ليس الخضوع لمزاج “حزب الله” أو إثبات الولاء لمفهومه الأحادي للمقاومة، بل إعادة الاعتبار للدولة اللبنانية، كجهة وحيدة مخولة باتخاذ القرارات المصيرية، بما يخدم مصلحة الشعب اللبناني أولًا وأخيرًا