
كتب العميد الركن خالد حماده في اللواء :
وضعت حادثة إطلاق صواريخ مجهولة الهوية من جنوب لبنان نحو مستوطنة المطُلة نهاية الأسبوع المنصرم، ومسارعة العدو الإسرائيلي للرد بعشرات الغارات على الجنوب والبقاع، اللبنانيين أمام محاكاة لما يمكن أن يحمله الميدان من تطورات خطيرة، مع استمرار حزب الله ومن يدور في فلكه في محاولة المماهاة القسرية بين إلزامات اتّفاق 27 نوفمبر 2024 لوقف إطلاق النار والتأويلات المحلية لمضمون الإتّفاق. لقد أملت خطورة الموقف المترتبة على إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي معادلة «بيروت مقابل المطُلة»، وجسامة ما يمكن أن تحدثه مغامرة العودة إلى حرب لم تضع أوزارها بعد، عدم الإستمرار في تجاهل الحدث كنسق سائد في مواقف مماثلة. أجل وجد أركان الحكم في لبنان أنفسهم وللمرة الأولى أمام خيار لا بد منه وهو تأكيد الإلتزام بموجبات إتّفاق وقف إطلاق النار بإشراف دولي.
رئيس الحكومة نواف سلام بادر ، وبما يمليه الدستور، إلى التحذير من «تجدد العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية لما تحمله من مخاطر جرّ البلاد إلى حرب جديدة»، والإيعاز لوزير الدفاع الوطني ميشال منسى بـ«ضرورة اتخاذ كلّ الإجراءات الأمنية والعسكرية اللازمة، بما يؤكد أن الدولة وحدها هي من تمتلك قرار الحرب والسلم». موقف سلام أتى ليستكمل ما أكّده لقناة العربية قبل يوم واحد بـ» أن الدولة وحدها المسؤولة عن أمن الحدود البرية والبحرية والجوية، وأن شعار «شعب جيش مقاومة أصبح من الماضي، وأننا لن نستسلم أو نخضع لمساومات». بدوره إعتبر رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أن إطلاق الصواريخ هو محاولة لاستدراج لبنان مجدداً الى دوامة العنف داعياً الجيش لــ»إجراء تحقيق عاجل للوقوف على ملابسات ما حصل والعمل على معالجته بكل شفافية».
لم يكن اللهجوم الصاروخي البدائي الذي تجاوز الحدود ببضعة مئات الأمتار أيّة مفاعيل تُذكر على الداخل الإسرائيلي، فمنصات الإطلاق الخشبية التي عثر عليها الجيش تستحضر السخرية ليس أمام التقنيات التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي بل أمام أكثر جيوش العالم الثالث تخلفاً. لكن مفاعيل هذا الهجوم كما أرادها مخططوه وضعت مصداقية الدولة اللبنانية أمام المجتمع الدولي في موقع حرج، كما قدّمت للعدو الإسرائيلي ما يكفي من الأدلة لإشهار عجز لبنان عن الإلتزام بما تعهد به وللإستمرار باحتلاله.
إن القاسم المشترك بين الهجمات ما دون الصاروخية على إسرائيل سواء من الجنوب اللبناني أو من غزة واليمن ليس فقط في رداءة الصواريخ المستخدمة وسقوطها السهل دون تشكيل أي خطر على إسرائيل، بل في إستمرار وضع الدول الثلاث في فم التنين الإسرائيلي ليتلذذ بدماء أبنائها وبإلتهام مستقبلهم، وهو ما لا تستطيع تعويضه بيانات يحيى سريع المتحدّث الرسمي بإسم القوات المسلّحة الموالية لأنصار الله الحوثيين أو تبني «كتائب القسام» إطلاق صواريخ باتّجاه تل أبيب، أو إنكار حزب الله لعلاقته بالهجوم. وليس أدل على من يقف خلف تلك الهجمات الرديئة التقنية أكثر من تقاطع المصالح بين عدو متربص بجغرافيا الدول الثلاث وآخر متربص بقيام الدولة الوطنية في كلّ منها.
لقد أفضى خبث النوايا وراء تلك الهجمات الى إعطاء الفرصة لإسرائيل لإطلاق جولات جديدة من الحرب مع مؤشرات على تصعيد أوسع في غزة ولبنان واليمن، كما أدى إلى مزيد من الوهن السياسي مما سيسمح لإسرائيل بتحقيق المزيد من المكاسب السياسية وسط الأزمات الداخلية المتفاقمة. ويبقى التساؤل الذي تفرضه الواقعية السياسية في استحالة الفصل بين ما يمكن تسميته بدبلوماسية الدم التي تدفع اليها طهران في الدول الثلاث عن المفاوضات مع واشنطن المتعلقة بملفها النووي، فهل تحاول طهران تحسين شروطها قبل انقضاء مهلة الشهرين التي حددها الرئيس ترامب للتوصل الى اتفاق بشأن الملف النووي؟
قد يكون في ما عبّر عنه المفاوض البارز في الإدارة الأميركية الجديدة «ستيفن ويتكوف»ما يؤكد على الصلة بين المفاوضات النووية وما يجري في غزة ولبنان واليمن. لقد كان ويتكوف واضحاً في التأكيد إن «إيران لا يمكنها امتلاك قنبلة نووية وهذا لا يمكن أن يحدث ولن يحدث»، مضيفاً أنّ «الرئيس ترامب لا يريد الحروب، وهو قد يلجأ للحل العسكري من أجل وقف الحروب»….. أما بشأن إيران وملفها النووي فنأمل ألا نلجأ لهذا الخيار».
لقد عبّر «ويتكوف» عن هواجس أميركية تتعلق بخسارة ما وصفها بـ»الإنجازات المحققة»، ومنها القضاء على قادة حماس وحزب الله، والتي تمثّل عاملًا كبيراً للتحرك من أجل التوصل إلى حل في المنطقة. وفي ما يمكن اعتباره دلالات واضحة على التوجه الأميركي للربط بين مكوّنات المشهد الشرق أوسطي كافة من طهران إلى لبنان مروراً بغزة، إعتبر ويتكوف « إنّ الحل في غزة قد يكون مفتاحاً لترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط»، وإنّ تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، ثم بين سوريا وإسرائيل، يمكن أن يكون جزءاً من عملية أوسع نطاقاً لإحلال السلام في المنطقة».
وفي هذا الإطار لا بد من التساؤل عما سيكون عليه الموقف اللبناني إزاء كل ذلك، وما هي الإجابات التي سيقدمها أركان الدولة لنائبة المبعوث الأميركي الرئاسي لشؤون الشرق الأوسط مورغن أورتاغوس التي ستزور لبنان بعد عيد الفطر؟
إن حكومة الرئيس نواف سلام مدعوة لإخراج لبنان من فم التنين عبر المضي في تنفيذ مضمون البيان الوزاري باستكمال نشر الجيش على كامل التراب الوطني إلتزاماً بالدستور قبل التزام القرارات الدولية كخيار لا بدّ منه للإنتصار على دبلوماسية الدم…..