سلايدات

الشرع تحت ضغط اللاعقوبات على سوريا

كتب عمر قدور في المدن :

ما أن أعلن الرئيس ترامب عن نيته الإيعاز برفع العقوبات عن سوريا حتى عمّت الاحتفالات بين السوريين. ولا مجازفة في القول إن الخبر يحمل في طياته أكبر فرحة مشتركة، فيما لو جُرِّد من حسابات سياسية مستعجلة، سواء لدى قلائل جداً استاؤوا منه، أو لدى الذين اعتبروا أنهم حققوا به انتصاراً على سوريين آخرين. ما يعزز الفرح أن العهد البائد استخدم العقوبات (بأثر رجعي) كشمّاعة يعلّق عليه مجمل إخفاقاته، وورثتها السلطة الجديدة التي ربطت التقدّم في العديد من الملفات برفع العقوبات، ومنها ملفا العدالة الانتقالية والسلم الأهلي.

هناك ملايين من الفرحين الذين لا يضعون الاعتبار السياسي في الواجهة، فالأوضاع المعيشية متدهورة إلى حدود قصوى، والنسبة الغالبة من السوريين في الداخل هي تحت خط الجوع. يمكن مثلاً الحديث عن ملايين من الذين لا يستطيعون الذهاب إلى الأطباء وشراء الأدوية، أو إلى المستشفيات العامة التي تقادمت تجهيزاتها، ولم تعد تستطيع تقديم خدماتها المجانية. وما هو من بديهيات العيش في معظم الدول ليس بديهياً في سوريا، فثمة مثلاً ملايين من الذين تخلوا عن استخدام معجون الأسنان أو من الذين لم يستخدموه إطلاقاً. المُجاز الجامعي الذي يقبض راتباً يعادل 50 دولاراً قد يدفع نصفه للمواصلات بين سكنه وعمله، والسفر بين حلب ودمشق ذهاباً وإياباً مع تناول وجبة طعام قد يكلف أكثر من هذا الراتب.

العشم من رفع العقوبات هو على قدر هذا البؤس المعمم، وسقف التوقعات مرتفع بقدر ما وضِع قبل الثلاثاء الفائت على شماعة العقوبات، وأيضاً بقدر ما قيل عن نوايا طيبة من الأشقاء للمساعدة، تحُول العقوبات دونها والتنفيذ الفوري. بعض الآمال المتواضعة قد يكون تنفيذه قريب المنال، كتلك المتعلقة بسداد الرواتب وتحسينها قليلاً، أو المتعلقة بمساعدة المستشفيات المهترئة، أو زيادة ساعات الوصل الكهربائي.

لكن الانتقال من حالة البلد المنعزل، ثم المعزول خلال نصف قرن، إلى بلد منفتح لن يكون بسهولة التعاطي مع بعض المساعدات الإسعافية. الحديث هنا عن بلد واقعي، لا عن تلك الأهازيج الانتصارية المستمرة على السوشيال ميديا، حتى إذا كان من يقودونها موجودين في الداخل، فقد صار من المعتاد أن تُرى سوريا على نحو شخصي، وكلّ يرى فيها ما يناسب قدرته على الإنفاق، وهذا ليس بالجديد، ولا يُحسب فقط على العهد الحالي.

فيما يخص السلطة تحديداً، من المنطقي أن يكون رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع مدركاً لأعباء النقلة المطلوبة، سواء على الصعيد العام، أو على صعيد الإجراءات المطلوبة منه خارج الهمّ الاقتصادي، وربما هذا ما أثقل على خطاب الشكر الذي وجهه في اليوم التالي لإعلان ترامب. الانتقال إلى عالم متحرك، ومجاراة تحولاته السريعة والمنتظَرة، لن يكونا سهلين على بلد عاش العزلة، ولا على هيئة التحرير الحاكمة التي عاش قياديوها سنوات طويلة من التخفّي. ما هو مطلوب لقاء دمج سوريا في المنظومة الإقليمية (التي هي قيد التشكيل) لن يكون تمريره سهلاً في أوساط الهيئة نفسها، فالأمر يمسّ العديد مما يُعتبر بمثابة ثوابت أيديولوجية، في وقت لا تبدو فيه تلك الأوساط مرتاحة إلى التغيرات التي فرضها تسلّم مقاليد السلطة في دمشق.

تصريحات وزير الخارجية الأميركي، بعد لقائه نظيره السوري في تركيا، تكشف عن الأعباء المترتبة على إلغاء العقوبات. فهو تحدث عن تعهّد السلطة ببناء دولة تعددية، وعن رغبتها في السلام مع إسرائيل، وفي طرد المقاتلين الأجانب والإرهابيين ممن يزعزعون استقرار البلد. وأشار الوزير إلى أن الاستثناءات من قانون قيصر ستكون لمدة 180 يوماً قابلة للتجديد، ما يعني أن الاستثمارات الموعودة لن تأتي قبل إلغاء القانون الذي يحتاج قراراً من الكونغرس، منوّهاً بأن الذهاب إلى الكونغرس لإلغاء القانون سيكون بعد اختبار أفعال السلطة، وبأن الطريق طويل.

وإذا كانت الأنظار قد اتجهت أولاً إلى التعهّدات الخارجية، لحساسية ما يتعلق بإسرائيل خصوصاً، فالشق الداخلي لن يكون سهلاً بدءاً من الآن، لأن هناك مساعدات ستتدفق فعلاً من دول خليجية متحمّسة لتقديمها، مع رغبة حقيقية في انتشال سوريا من البؤس الذي قد يعود ليتسبب للمنطقة بمتاعب على صعيد الإرهاب، أو على صعيد الجرائم المنظّمة وفي رأسها تصنيع المخدرات وتصديرها. جدير بالذكر أن الأسد كان قد استخدم تلك المتاعب كورقة ابتزاز في الإقليم، فضلاً عن لعبه على الورقتين الإيرانية والروسية، وهذا كله لم يعد وارداً اليوم، فضلاً عن أن التهديد التقليدي بالفوضى لا يتناسب مع الانفتاح على المنطقة والعالم.

في ملاقاة المساعدات الواردة ستكون السلطة أمام استحقاق التشارك، إذا أرادت النجاح لمساعيها على المدى المتوسط والبعيد. والمقصود هنا ليس فقط مشاركة أوسع للجماعات الأهلية السورية؛ المطلب الذي ذكره وزير الخارجية الأميركية، وطالب به الأوروبيون من قبل. التشارك المطلوب يتعلق بالكفّ عن منطق الهيمنة على الوظائف العليا في الدولة السورية، وعدم النظر باستعلاء أو تخوين إلى شريحة التكنوقراط الموروثة، والتي لم تشارك في جرائم العهد البائد، والكفّ عن إقصاء المزيد منها في المستويات العليا والمتوسطة.

قبل يومين، على سبيل المثال ليس إلا، أثار السخرية خبرُ استقبال وزير العدل وفداً من البنك الدولي، بحث معه آليات تمويل مشروع الطاقة الكهربائية في سوريا! وقد صارت الأخبار متداولة بكثرة عن تدخل ما يُسمّى “الهيئة السياسية” التابعة لوزارة الخارجية في كافة مفاصل الدولة، وبما يذكّر بدور حزب البعث والمخابرات في العهد البائد. والمشكلة ليست فقط فيما يثيره ذلك من ذكريات مُرّة؛ هي في تسلط أشخاص لا خبرة لهم على أصحاب الشأن والخبرة بحيث تُقصى معايير الكفاءة لصالح الولاء كما حدث طيلة عقود.

سيكون من الخطأ الظن بإمكانية التوفيق بين نزوع احتكاري في الداخل وانفتاح على الخارج، فهذه الخلطة ممكنة فقط ونسبياً في بلدان لديها موارد وثروات ضخمة، لا في بلد يحتاج إلى المساعدات من مختلف الدول، وللدول المانحة توجهاتها واشتراطاتها، إذ لا أحد (وفق التعبير الشهير) يقدّم العشاء مجاناً سوى الوالدين. الفرصة المتاحة حالياً لسوريا استثنائية حقاً، لجهة أن الثمن المطلوب لقاء المساعدات بمعظمه ليس باهظاً، إلا بقدر صعوبته على بنية السلطة الحالية. حتى على هذا الصعيد، لا يبدو هناك في الخارج والداخل من يستعجلها للانقلاب على نفسها، فالإنجازات الكبيرة غير متوقَّعة في زمن قريب، والمطلوب منها إثبات جدية في السير على طريق التشارك في الداخل والانفتاح على الخارج.

يبقى أسوأ ما يمكن فعله هو النظر إلى رفع العقوبات، وبدء التعاطي الإيجابي من قبل إدارة ترامب، على أنهما صك لاكتساب الشرعية. المحتفلون بلهجة انتصارية فعلوا هذا، ربما من دون انتباه إلى أنهم يستقوون بالخارج على سوريين مختلفين معهم في الرأي؛ من دون انتباه إلى أن توسّل الشرعية من الخارج هو صنو ستة عقود منصرمة من العزلة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى