سلايداتمقالات

واشنطن متمسكة باولوية السلاح

كتب جوني منير في الجمهورية:

عاد الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك إلى بيروت في جولته التفاوضية الثالثة، والتي استبقت بالترويج لها بأنّها حاسمة. لكن أجواء «حزب الله» لا تبدو مرنة أو متجاوبة، ولو أنّ الأجواء الديبلوماسية تشتمّ بعض الإيجابيات، والتي يستوحيها برّاك من محادثاته مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي يتولّى دور وزير خارجية «حزب الله».

إلّا أنّ جولة برّاك الثالثة كانت قد سبقتها أحداث كبرى، بعضها غير متوقع، مثل الأحداث الدامية في السويداء جنوب سوريا، وأخرى تتعلق بتطورات المفاوضات النووية مع إيران.

يقول السفير الأميركي السابق في لبنان والخبير في شؤون المنطقة ديفيد هيل «إنّ تاريخ العلاقات الأميركية ـ اللبنانية حافل بالآمال المبالغ فيها معظم الأحيان، والطموحات التي تفتقد إلى مضمون حقيقي. لكن هذه المرّة قد تكون الأمور مختلفة بسبب ظروف المنطقة». ويضيف أنّه «إذا لم يلتزم المسؤولون اللبنانيون بنزع سلاح «حزب الله»، فمن المرجح أن يتولّى ذلك الجيش الإسرائيلي». ويتابع «أنّ هنالك فرصة سانحة لديبلوماسية أميركية ناشطة ومنضبطة ومثابرة، ليس فقط لتطبيق وقف إطلاق النار بل أيضاً للعمل نحو سلام حقيقي وترسيخ إعادة ترتيب موازين القوى التي رسخها ترامب من خلال ضرباته على إيران». ويختم قائلا: «إن هذه الفرصة لن تبقى سانحة إلى الأبد».

وفي كلام هيل تلخيص واقعي للموقف الأميركي تجاه لبنان، واختصار لمهمّة برّاك التي ترتكز على بند أساسي يحدّد برنامجاً زمنياً لتسليم سلاح «حزب الله»، إضافة إلى التزام واضح وعلني للحزب، ولو من خلال وزرائه في الحكومة. لكن المسألة لا تبدو بهذه السهولة. ذلك أنّ إجراء قراءة واقعية للموقف الفعلي لـ«حزب الله» لا تبدو أبداً سهلة، أضف إلى ذلك أنّ موقف إيران العريض يتأرجح بين الإشارات الإيجابية وتلك السلبية. وبالتالي فلا يمكن الركون إلى التقديرات الغربية والتي تستند أساساً إلى النتائج التي أدّت إليها الحرب ضدّ إيران إن كان مباشرة أو من خلال القوى المتحالفة معها. ففيما اتسمّ خطاب إيران وحلفائها بعد الضربات بنبرة التحدّي والتشدّد، أعلنت طهران عن جولة محادثات مع الترويكا الأوروبية (بريطانيا، ألمانيا وفرنسا) الأسبوع الجاري على مستوى مساعدي وزراء الخارجية. ولذلك هنالك في واشنطن من يعتقد أنّ التشدّد الإيراني يهدف لتحسين شروط التفاوض، وهو الخيار الذي يفضّله ترامب، خصوصاً أنّ المعطيات العسكرية تشير إلى أنّ أي مغامرة عسكرية إيرانية جديدة ستكون بمثابة إنتحار للنظام القائم. وهذا الأسلوب الإيراني المتأرجح والغامض قابله ترامب بالمثل، عندما اعتبر أنّه غير مستعجل على استئناف المفاوضات، لكن الحقيقة هي غير ذلك. فالهدنة بين إسرائيل وإيران لا تزال هشة، والتسريبات الإعلامية تتحدث عن إلحاح مستمر لنتنياهو للحصول على ضوء أخضر أميركي لاستئناف الحرب الجوية، وهو ما يستوجب الحذر من ألاعيب واستفزازات «بيبي» بهدف العودة إلى الخيار العسكري، وسط ظروف إسرائيلية داخلية صعبة ومحشورة جداً للحكومة الإسرائيلية.

وفي الإشارات السلبية أنّ إيران تسعى لإعادة تسليح نفسها، حيث تتناقل أوساط ديبلوماسية معلومات عن وصول أنظمة صواريخ أرض ـ جو صينية الصنع إلى إيران خلال الأسابيع الماضية، وسط محادثات مع كوريا الشمالية وروسيا للغاية نفسها.

وإذا كان البعض يرى في ذلك سلوكاً طبيعياً ومنطقياً لأي دولة بعد نتائج الحرب وفي إطار ترميم قوتها الدفاعية، إلّا أنّ اكتشاف شحنة الأسلحة الضخمة والنوعية والمرسلة من إيران إلى الحوثيين توحي بأنّ طهران تستعد لمواجهة جديدة، بدليل الصواريخ البحرية التي تضمنتها الشحنة، إضافة إلى الرادارات والقدرات الأخرى، ما يعني أنّ الهدف هو السعي لتعطيل الملاحة وإغلاق الممرات البحرية للتجارة العالمية.

وفي موازاة ذلك، يُسجّل حصول إنفجارات غامضة داخل إيران، وتبقى من دون أي تفسير أو توضيح حكومي، ما يدفع للإعتقاد بأنّها ليست أحداثاً طابعها تقني أو طبيعي، خصوصاً أنّها تحصل وفق نمط أمني واضح، ما يجعل من الصعوبة بمكان إعتبارها مجرد «مصادفات». ويأتي ذلك في ظل تسريبات إعلامية عن أنّ الموساد الإسرائيلي لا يزال يستأنف نشاطه في إيران، ومع الإشارة إلى الفجوات الأمنية الواسعة التي كان حققها، والتي استند بعضها إلى مجموعات أفغانية وأخرى هندية موجودة في إيران.

لكن السؤال الذي ما برحت تردّده أوساط ديبلوماسية أميركية متابعة، هو ما إذا كانت إسرائيل، والتي لا تزال ترفض إغلاق كتاب الحرب في غزة ومع لبنان، قادرة على الإستمرار في هذه الحرب المتعددة الجبهات في آن معاً، والتي أضافت إليها جبهة جنوب سوريا المعقّدة والحساسة جدا؟

وقبل التطرّق إلى الواقع اللبناني بعد استعراض المشهد الإقليمي لإيران، لا بدّ من نظرة سريعة على الأحداث الدموية في السويداء، والتي تؤثر مباشرة على التعقيدات اللبنانية. والواضح أنّ الرئيس السوري أحمد الشرع إرتكب خطأ لم يحتسب له جيداً.

 

فالسلاح موجود في السويداء منذ سنوات عدة، وتحديداً منذ اندلاع الثورة في سوريا في 2011. لكن الجديد هو استخدامه، واعتبار الوضع أنّه بات مهيأ للذهاب الى إنتاج تنظيمات محلية شبه عسكرية ستتطور مستقبلاً لتصبح أكثر تنظيماً، وتحت عقيدة الدفاع الذاتي كحل وحيد للواقع الجديد. أي أنّ ظروف ولادة مناطق ذات إدارة مستقلة باتت ناضجة وقابلة للتحقق. لكن هذه «الظروف الناضجة» من المنظور الإسرائيلي قد لا تتطابق مع البرنامج الزمني الأميركي الموضوع الآن. وقد يكون الشرع أخطأ أيضاً في توفير الظرف لإسرائيل. فحسابات الشرع بأنّ تقدّم المفاوضات مع إسرائيل وصولاً إلى الإجتماعات المباشرة، بات يسمح بإسقاط العامل الإسرائيلي من الحسابات السورية الداخلية كانت خاطئة. فالأولوية الإسرائيلية والتي تتفهمّها واشنطن، هي لواقع جغرافي جديد أكثر منه لتطبيع مع سلطة ما زالت ضعيفة، ما يهدّد واقع التطبيع بالسقوط عند أول مفترق. والرسالة الإسرائيلية بقصف وزارة الدفاع ومحيط رئاسة الجمهورية واضحة في هذا الشأن. وبالتالي ومهما كان شكل الحل في السويداء، فإنّ إسرائيل كرّست حضورها وكلمتها ورؤيتها لنشوء منطقة أمنية عازلة سيتطور وضعها لاحقاً وصولاً إلى كيان مستقل. وبالتالي لم يعد قرار جنوب سوريا في يد دمشق فعلياً، بل في يد إسرائيل كاملاً ومباشرة. وحتى لو تسلّمت السلطة السورية إدارة السويداء من ضمن ترتيب ما، فستكون خطوة شكلية في ظل استعداد إسرائيل للتدخّل العسكري المباشر عند كل لحظة.

 

ولقد أخطأ الشرع في السماح للأمن العام بالتدخّل العسكري بحجة فضّ النزاع بين الأهالي والعشائر العربية، وهو ما أدّى إلى انفجار الوضع، والذي لم تكن نتائجه في مصلحة دمشق. وكذلك فشل الشرع حينما لم تنجح قواته في السيطرة على المدينة، مع تسجيل انتهاكات مرعبة بسبب مشاركة ميليشيات متطرفة. وفي الواقع لم تحتسب دمشق جيداً للتوقيت والظروف السياسية والعسكرية، والنتيجة الأصعب هي في صعوبة إعادة طرح موضوع تسليم سلاح تنظيم «قوات سوريا الديموقراطية» («قسد»)، خصوصاً أنّ علاقة الأكراد بإسرائيل قوية ومباشرة. وهو ما سيؤدي إلى تفريغ مهمّة برّاك في سوريا من مضامينها الفعلية، على الأقل وفق عناوينها المعلنة. وهنا لا بدّ من التمعن جيداً بالصمت الذي لازم موقف إدارة ترامب إزاء أحداث السويداء ولثلاثة أيام كاملة، قبل الدعوة إلى وقف إطلاق النار. فمن جهة هي توافق إسرائيل على قيام مناطق تحظى بإدارة محلية مستقلة، ولكن وفي الوقت نفسه قد ترى أنّ هنالك مهمّات لا بدّ أن تتولاها دمشق حالياً، وترتكز خصوصاً على المساهمة في قطع يد إيران عن المنطقة الساحلية لسوريا ولبنان. وهذا العمل لم يُنجز بكامله بعد. ولذلك تتمحور مهمّة برّاك في لبنان على الإسراع في إنجاز مهمّة تسليم السلاح الثقيل لـ«حزب الله» وفق برنامج زمني لا يتجاوز نهاية السنة الحالية، وإلّا ترك المهمّة للحلول العسكرية الإسرائيلية وكذلك لقوات الشرع عند الحدود مع البقاع الشمالي.

 

ووفق معلومات ديبلوماسية محدودة التداول، فإنّ بعض الدول الأوروبية المهتمة بالشأن اللبناني، إقترحت على إدارة ترامب إجراء تعديل في أولويات المطالب الأميركية لجهة التركيز الآن على ملفي الفساد وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وترك ملف السلاح إلى حين إنجاز التسوية الإقليمية مع إيران. إلّا أنّ الردّ الأميركي جاء فورياً وحازماً وجافاً بأنّ الأولوية المطلقة هي لموضوع السلاح، وأنّ البقية ستأتي لاحقاً. ومن هنا يمكن استنتاج جوهر مهمّة الموفد الرئاسي الأميركي في جولته الثالثة.

 

ولكن الأخطر هو ما ألمحت به إدارة ترامب إلى الأمم المتحدة، بأنّها تتّجه إلى وقف مساهمتها المالية في موازنة قوات «اليونيفيل» العاملة في جنوب لبنان. وهو ما يوحي أنّ الضغوط الأميركية ستكون تصاعدية وجدّية. طبعاً ستحاول أوروبا سدّ الفجوة بالتعاون مع الأمم المتحدة بغية إبقاء مهمة «اليونيفيل». لكن هذا سيعني أنّ حال الحرب التي لا تزال تمارسها إسرائيل باتجاه لبنان ستبقى قائمة ولو بوتيرة منخفضة الآن، ولكنها مرشحة للتصاعد في المستقبل القريب.

 

ويروي مصدر مطلع في واشنطن، أنّ لبنان والمنطقة أمام حقبة مختلفة، وأنّ المرحلة هي للتأسيس لواقع جغرافي جديد. لكن واشنطن تعمل وفق برنامج زمني متدرج، فيما إسرائيل تريد الذهاب فوراً إلى كيانات طائفية ومذهبية. وأحداث السويداء واضحة في سبر أغوار النيات والخلفيات. فواشنطن تطمح للتدرج بدءاً من إجراء تغييرات داخلية للدول من خلال تكريس الإدارات المستقلة من دون المساس بالحدود المعروفة في المرحلة الحالية، في انتظار ترسيخ إنضاج الظروف أكثر للذهاب لاحقاً إلى تعديلات جديدة للحدود الجغرافية.

في جولة برّاك الجديدة لا تبدو الثالثة ثابتة. ولكن الوقت لا يبدو مفتوحاً

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى