
لكن هذه المقارنة، بين التفكير على طريقة الشطرنج والتفكير على طريقة الطاولة، تعكس رؤية حول الاختلافات في الأسلوب والمنهجية بين السياسيين الغربيين (أو الأميركيين على وجه التحديد) والسياسيين اللبنانيين.
فالشطرنج غالباً ما يُعتبر لعبة ذكاء واستراتيجية، حيث يتطلب من اللاعبين التفكير العميق والتخطيط المسبق لتحركاتهم.
أم الطاولة، تُعتبر لعبة تعتمد على الحظ والقدَر إلى حد كبير، حيث يلعب الرمي العشوائي للنرد دوراً كبيراً في تحديد النتيجة. وهذا جزء من الثقافة العربية التي تؤمن بالقدرية والاعتماد على الحظ.
في هذا السياق، يمكن القول إن: أميركا كطرف يفكر بطريقة استراتيجية ومنطقية، حيث يتم التخطيط والتنفيذ بناءً على تحليل دقيق للوضع. ما يعكس رؤية حول القوة والقدرة على التحكّم في النتائج.
لكن السياسيين اللبنانيين يتصرفون بطريقة أكثر عشوائية أو تعتمد على الحظ، حيث ستكون القرارات غير مدروسة جيداً أو تتأثّر بالعوامل الخارجية. هذا ينعكس برؤية سلبية حول الفاعلية والقدرة على اتخاذ القرارات في السياسة اللبنانية.
وهذه الاستعارة التي تبدو مجرد تشبيه ظرفي، تنطوي في العمق على فهم ثقافي دقيق، يتقاطع بشكل مدهش مع ما قدّمه فؤاد إسحق الخوري في كتابه «العنف سيد الأحكام»، لا سيما في الفصل الأول عن «اللعب والإيديولوجيا».
يتموضع توصيفه على ثلاث مستويات: الفهم الأنتروبولوجي، المقارنة، والدلالة السياسية.
ما هو الفرق بين الشطرنج والطاولة؟ وفق تحليل الخوري، الشطرنج تمثّل نموذجاً هرمياً:
أحجارها متفاوتة في القوة والدور، تتحرك وفق قواعد معقّدة ومنظمة، تتطلب تفكيراً استراتيجياً بعيد المدى، وتحاكي بناء السلطة وتوزيعها بطريقة عقلانية.
أما طاولة الزهر، فهي على النقيض:
كل الأحجار متساوية، تلعب منفردة وتخضع للحظ، يحمي الحجر نفسه فقط عبر الانضمام إلى خانة (المجموعة)، والقوة ليست بالموقع أو الهيكلية، بل بالعدد والاصطفاف اللحظي.
برّاك يقول للنخبة اللبنانية: أنتم تلعبون طاولة لا شطرنج، ملمّحاً إلى أن القوى السياسية اللبنانية تفكّر بعقلٍ لا هرمي، عشوائي، طائفي، قبلي.
ليس لديها رؤية استراتيجية (كما في الشطرنج)، تتحرّك بحسب اللحظة والحظ، ولا تُبنى التحالفات وفق منظومات مبدئية بل وفق الحاجة اللحظية للحماية أو الانتصار، وهذا ما يجعل كل فريق سياسي يسعى لأن يكون وحده في خانة معينة.
إنها الذهنية التي شرحها الانتروبولوجي فؤاد اسحق الخوري:
الكل يريد أن يكون الأول بين متساوين، دون بنية تقود أو تُلزم.
المجتمع بلا تصوّر طبقي أو مؤسساتي؛ كل الجماعات تسعى اللهيمنة لا التعاون.
الجماعات تتشكّل حول «الأبطال» و«الزعماء»، لا حول بنى دستورية أو مدنية.
كل فرد يسعى لمركز القيادة، لكنه لا يؤمن بمفهوم القيادة المؤسسية.
الطاقم السياسي اللبناني – قبائل وعشائر تتصارع على الحظوة.
تصريح برّاك حول أداء السياسيين اللبنانيين بأنهم يلعبون «الطاولة»، ليس سخرية، بل تشخيص دقيق للعقلية السياسية التي لا تزال تُدار بمنطق الزعامة والقبيلة والتكتيك اللحظي، لا بمنطق الدولة أو الشراكة أو الحساب البعيد.
فالسياسي اللبناني – بحسب هذا المنظور -:
لا يقبل أن يكون «جندياً» في منظومة دستورية.
يسعى ليكون الزعيم حتى على حساب انهيار الخانة.
يفضّل التحالف العابر على البناء المؤسساتي.
ويدير معاركه وكأنها لعبة حظ لا سباق تفكير.
تصريح توم برّاك ليس فقط وصفاً لحالة، بل تحذير ضمني:
من يلعب طاولة في ميدان الشطرنج الدولي سيُؤكل، لا محالة.
فلبنان لا يعيش فقط أزمة مالية أو دستورية، بل أزمة عقل سياسي لا يزال يُدار بمنطق «الخانة» لا «المؤسسة»، بمنطق «الحظ» لا «الحساب»، بمنطق «أنا أو لا أحد» لا «نحن كشعب ودولة».
وإذا لم تُدرك النخب الحاكمة أن قواعد اللعبة تغيّرت، فستبقى تدور في حلقة مفرغة، تماماً كما في لعبة الطاولة… حتى «تُحبس» بالكامل.
لا أدري مدى استياء اللبنانيون مما قد يعتبرونه تدخّلاً أجنبياً في شؤونهم الداخلية أو تحقيراً لسياسييهم.
لكن إذا احسنّا الظن بالسياسيين اللبنانيين، فقد يُستخدم هذا التصريح كفرصة للتحليل الذاتي (والنقد الذاتي كما كنا نسمّيه)، حول الأساليب والمنهجيات المتبعة في السياسة اللبنانية، ومدى فعاليتها في مواجهة التحدّيات.
فهل سيردّ السياسيون اللبنانيون على هذه الانتقادات بتقديم رؤيتهم الخاصة (المقنعة للرأي العام) حول كيفية إدارة الشؤون السياسية في لبنان؟
أم سيقبعون في زاوية حرجة من العجز وخصوصاً الاستراتيجي منه، بانتظار فرج لا يأتي؟