سلايداتمقالات

هل يختار لبنان السيادة…أم يترك مصيره للآخرين؟

كتب السفير السابق إدوارد غابرييل في الشرق الاوسط: 

أثار ردّ لبنان الأخير على مقترح أميركي يهدف إلى تحسين أمن ورفاهية المواطنين في كل من لبنان وإسرائيل، قدراً من التفاؤل الحذر في الأوساط الدبلوماسية. فعلى خلاف التوقعات، وُصفت الاجتماعات التي عقدها المبعوث الأميركي، السفير توم برّاك، مع عدد من القادة اللبنانيين، بينهم الرئيس جوزيف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، بأنها بنّاءة وتتسم بالبراغماتية بدلاً من التمسك بخطوط حمراء جامدة.

هذا بحد ذاته تطور مشجع، وإن كان الحذر واجباً. فالوقت ضيّق، والتوصل إلى اتفاق دائم يتطلب خطوات جريئة وحاسمة، في مقدمتها نزع سلاح «حزب الله» وانسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان.

المقترح الأميركي الذي يُقال إن القيادة اللبنانية تقبله من حيث المبدأ، يمثل فرصة أولية. لكن في الشرق الأوسط، يكمن الشيطان دائماً في التفاصيل. ومن ثم، ينبغي أن تنتقل الولايات المتحدة ولبنان سريعاً إلى ترتيبات جوهرية، تُنسّق بعناية، وتُنفّذ ضمن ضمانات أمنية صارمة ومعايير إصلاح واضحة. والأهم أن السفير برّاك أوضح صراحة أن أي اتفاق لن يصمد ما لم يُوضع حد لسلاح «حزب الله».

يتضمن المقترح اللبناني خطوات أساسية؛ منها: وقف الأعمال العدائية من جميع الأطراف، ونزع سلاح كل الجهات المسلحة غير الشرعية (وبشكل خاص ترسانة «حزب الله»)، وترسيم الحدود مع كل من سوريا وإسرائيل، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وبسط الجيش اللبناني سلطته الكاملة على جميع الأراضي اللبنانية.

ورغم أن هذه البنود تمثل أساساً صالحاً لأي اتفاق قابل للاستمرار، فإنها بحاجة إلى عناصر داعمة تضمن ديمومتها. في مقدمة هذه العناصر دور الجيش اللبناني الذي يُعدّ المؤسسة الوطنية الأكثر ثقة وكفاءة. ولا يمكن لأي تسوية أن تصمد من دون تمكين الجيش عملياً من ضبط الحدود ونزع سلاح الميليشيات. وقد أظهر الجيش إرادة للقيام بدور في الجنوب، لكنه بحاجة الآن إلى تفويض سياسي واضح من القيادة اللبنانية، وإلى دعم دولي يمكّنه من أداء هذا الدور في مختلف أنحاء البلاد.

وباعتبار أن الولايات المتحدة هي أكبر جهة مانحة للجيش اللبناني، فإن عليها أن تعيد تأكيد التزامها تجاه هذه المؤسسة. ومع اقتراب موعد مناقشة الكونغرس الأميركي لمخصصات تمويل الجيش في موازنة العام المالي 2026، على القادة اللبنانيين أن يتحركوا بسرعة. فأي تلكؤ في إظهار الإرادة السياسية سيؤدي إلى تقويض الدعم العسكري والدبلوماسي، ما سيترك لبنان مكشوفاً أمام المخاطر.

ولا يمكن تأجيل موضوع سلاح «حزب الله» إلى مرحلة لاحقة. فهذه القضية تمثل جوهر الموقف الأميركي، وأي عدم التزام بها سيهدد كامل الاتفاق. ويرى البعض أن على لبنان أن يحقق الأمن أولاً قبل الانتقال إلى الإصلاحات الاقتصادية والمؤسساتية. لكن الواقع أن الأمن والإصلاح مترابطان، ولا معنى لأي تسوية من دون جهد إصلاحي داخلي فعّال يُحدث فرقاً ملموساً في حياة اللبنانيين، بدءاً من استعادة القدرة على الوصول إلى حساباتهم المصرفية التي جُمّدت بفعل الأزمة، وصولاً إلى إصلاح النظام المصرفي والقضائي والرقابي.

أما جنوب لبنان الذي تكبّد الأثمان الأبهظ في النزاع الأخير، فلا يزال يرزح تحت وطأة التبعية القسرية لـ«حزب الله»، لا اختياراً، بل اضطراراً. وتجب طمأنة أبناء الجنوب بأن الدولة اللبنانية، وبدعم من الولايات المتحدة وشركائها، ستضع عملية التعافي وإعادة الإعمار على رأس أولوياتها بمجرد استعادة السيادة على المنطقة.

جاءت تصريحات الرئيس عون الأخيرة التي أكد فيها أن قرارات الحرب والسلم حصرية للدولة، وأن مسألة السلاح خارج الدولة قد «حُسمت ولا عودة عنها»، في توقيت مهم وتبعث على الأمل. لكن غياب التنفيذ العملي سيجعل واشنطن تحول أنظارها إلى ملفات أخرى، من سوريا إلى غزة وإيران، تاركة لبنان يغرق أكثر في العزلة.

في غضون ذلك، تتبدل ملامح المشهد الجيوسياسي بسرعة. فاحتمال التوصل إلى تفاهم بين سوريا وإسرائيل قد يعيد رسم خريطة الأولويات الإقليمية ويهمّش لبنان تماماً. ومن دون ترسيم واضح للحدود وموقف لبناني حاسم لإنجاز التسوية، قد يجد لبنان نفسه خارج اللعبة، ويُتخذ القرار بشأن سيادته في غيابه.

وقد تكون زيارة السفير توم برّاك الحالية مفصلية. فهذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي تتلاقى فيها عوامل الاهتمام الدولي، واستعداد محلي، والتزام أميركي فعلي لدعم تعافي لبنان – شرط أن يثبت قادته أنهم أهل لهذا الالتزام. لكن الفرصة قد لا تدوم طويلاً، وصبر واشنطن ليس بلا حدود.

اجتماعات برّاك مع القادة اللبنانيين تمثل اختباراً. والسؤال المطروح على لبنان اليوم بسيط في مظهره، وعميق في مضمونه: هل سيتحدث لبنان بصوت واحد، قائلاً: «شعب واحد، بلد واحد، جيش واحد»؟ أم سيسمح مجدداً للآخرين بتقرير مستقبله عنه؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى