
لم يعد النقاش حول إضاءة صخرة الروشة بوجوه قادة حزب الله مجرد مسألة ترخيص إداري أو جدل قانوني عابر، بل تحول إلى عنوان جديد يختصر مأساة لبنان العالق منذ أربعة عقود بين منطق الدولة ومنطق الميليشيا، إذ يظهر الحزب مرة أخرى وهو يسعى إلى فرض رمزيته على أحد أبرز المعالم الوطنية، وكأن الأملاك العامة باتت امتداداً طبيعياً لنفوذه، فيما يجد رئيس الحكومة نواف سلام نفسه مضطراً لإعادة التذكير بالبديهيات من خلال مذكرة تؤكد أن استعمال الأملاك العامة يخضع لقوانين صارمة، في مفارقة تكشف حجم الفجوة بين دولة تحاول التمسك بما تبقى من مؤسساتها وحزب اعتاد التعامل مع لبنان كأرض سائبة لا سلطان عليها إلا سلاحه.
وفي هذا السياق، برز في ٢٤ أيلول مشهد غير مألوف حين اضطر حزب الله إلى المرور عبر القنوات الرسمية لنيل ترخيص لنشاط رمزي في محيط الروشة. فقد عُقد اجتماع بين نواب من الحزب ووزير الداخلية أحمد الحجار الذي شدّد على وجوب الالتزام بالإجراءات وعدم تنفيذ أي نشاط في الأملاك العامة من دون إذن مسبق. وبناءً على ذلك، تقدّمت جمعية فنية بطلب رسمي إلى المحافظ مروان عبود، الذي وافق بشروط صارمة: منع إضاءة الصخرة بصور القياديين المغتالين، وحصر عدد المشاركين بـ٥٠٠ شخص فقط، مع حضور أمني مشدد.
غير أنّ ما بدا خطوة انضباطية استثنائية من الحزب لا يلغي حقيقة أنّ أصل وجوده السياسي والعسكري والمالي والإعلامي قام منذ تأسيسه على تجاوز القوانين والدستور.
التأسيس خارج القانون
فالذي يناقش اليوم حق حزب الله في إضاءة صخرة الروشة، عليه أن يسأل أولاً عن شرعية وجود الحزب نفسه، فهل استحصل عند تأسيسه على الترخيص الضروري من وزارة الداخلية وفق القانون اللبناني الذي يفرض على أي حزب سياسي أن يسلك الطريق الإداري نفسه؟ بالطبع لا، لأن الحزب وُلد في كنف الاحتلال السوري وبرعاية إيرانية مباشرة، وتخطى منذ لحظته الأولى كل الأطر الشرعية، ما جعل كيانه كله حالة شاذة تخرق القانون وتنسف مبدأ المساواة بين المكونات اللبنانية. وهذا التأسيس غير الشرعي هو الذي سمح له لاحقاً بأن يبني مؤسسات موازية للدولة لا تخضع لأي رقابة أو محاسبة.
وفي المجال المالي، لم يكتف الحزب بخلق شبكات تمويل خارجية عبر إيران وأذرعها، بل أنشأ مؤسسة “قرض الحسن” التي تعمل كمصرف رديف يقدّم خدمات مالية ضخمة من دون أي إذن من مصرف لبنان أو التزام بالقوانين الناظمة للقطاع المصرفي، ما جعلها عملياً صندوقاً أسود يتيح للحزب تبييض الأموال وإدارة اقتصاد موازٍ يخدم محازبيه ويعزز تبعيته لمرجعيته الإقليمية، في وقت تكافح المصارف اللبنانية الرسمية للبقاء تحت وطأة الانهيار والملاحقات، ما يعني أن الحزب يستفيد من الحصانة السياسية ليمارس نشاطات محرّمة على أي لبناني آخر.
تجاوز الحدود والسيادة
ولم يقتصر الأمر على الداخل، إذ تجاوز الحزب حدود السيادة اللبنانية إلى مستوى انتزاع صلاحيات السياسة الخارجية التي يكرّسها الدستور حصرياً للدولة، فمدّ شبكاته نحو سوريا والعراق واليمن وغزة، ووصل إلى أميركا اللاتينية حيث نسج تحالفات مالية وعسكرية، ما جعل لبنان في موقع الدولة المجرورة إلى محاور إقليمية لم يقررها شعبه ولا مؤسساته الدستورية. وهذا التعدي السافر جعل وزارة الخارجية تبدو كمؤسسة شكلية أمام هيمنة حزب يفاوض ويقاتل ويعلن المواقف باسم بلد كامل لا حول له ولا قوة.
وفي الإعلام، جاءت قناة المنار لتكون ذراعاً دعائية تخرق قانون الإعلام اللبناني بشكل فاضح، إذ يُمنع في القوانين المرعية الإذن بإنشاء قنوات حزبية صرفة تُستخدم كمنابر عسكرية وسياسية، لكن الحزب اعتاد أن يفرض على الدولة واقعاً مخالفاً، محوّلاً المنار إلى أداة لتقديس السلاح وتبرير الحروب وإلغاء التعددية، وكأن الإعلام في لبنان لم يعد ساحة حرة بل منبراً لتمجيد الزعيم والسلاح والوصاية الإيرانية.
أما في مسألة السلم والحرب، فإن الخرق بلغ ذروته، فالحزب لم يلتزم يوماً بالدستور الذي يعطي قرار الحرب والسلم حصراً لمجلس الوزراء مجتمعاً، بل اختطف هذا الحق وجعله امتيازاً خاصاً به، فخاض حروباً ضد إسرائيل بقراره المنفرد وشارك في حرب سوريا بقرار أحادي، وزجّ لبنان في صراعات إقليمية دفع الشعب اللبناني ثمنها من أمنه واقتصاده وعلاقاته الدولية، بينما الدولة عاجزة عن فعل شيء سوى الانحناء أمام الأمر الواقع.
القضاء والاقتصاد في قبضة الحزب
وفي الداخل القضائي، مارس الحزب أبشع أنواع الترهيب ضد القضاة وأجهزة التحقيق، كما حصل في تعطيل التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، حيث تحولت العدالة إلى رهينة التهديد والوعيد، ما جعل القضاء عاجزاً عن القيام بدوره وحوّل الضحايا إلى مجرد أرقام في مواجهة جدار صمت فرضته الميليشيا بالسلاح والنفوذ، وهو أمر ينسف مبدأ العدالة ويحوّل الدولة إلى غطاء هش لنظام الأمر الواقع.
ولم تتوقف الانتهاكات عند السياسة والقضاء والإعلام، بل امتدت إلى الاقتصاد عبر شبكة تهريب جمركي وتهرب ضريبي استفاد من الإعفاءات بعد حرب تموز ٢٠٠٦، ليبني للحزب مورداً دائماً يمول محازبيه تحت عنوان إعادة الإعمار، لكن من دون أي التزام بالشفافية أو القانون، وهو ما جعل الحزب عملياً يعيش على اقتصاد ظل يقوم على التهريب والاحتكار، وصولاً إلى تجارة المخدرات التي باتت مادة ثابتة في تقارير دولية تتحدث عن تورط شبكات تابعة له في تصنيع وتصدير المخدرات من لبنان إلى الخارج، في خرق صارخ للقانون اللبناني ولكل الأعراف الدولية.
من هنا فإن النقاش حول إضاءة صخرة الروشة لا يعدو كونه قشرة خارجية تخفي أزمة أعمق بكثير، إذ كيف يُطلب من حزب الله أن يستحصل على إذن رسمي لإضاءة صخرة بحرية فيما أصل وجوده السياسي والعسكري والمالي والإعلامي قائم على تجاوز كل القوانين؟ وكيف يمكن للبنان أن يتحدث عن هيبة الدولة وسيادة القانون في ظل وجود حزب لم يعترف يوماً لا بدستور ولا بقضاء ولا بقرارات حكومة ولا بسياسة خارجية موحدة؟
إن الضوء الذي سيُسلط على صخرة الروشة هو في الحقيقة رمز آخر للظلمة التي يخيم بها حزب الله على الكيان اللبناني، بين دولة عاجزة عن تطبيق أبسط القوانين على ميليشيا متغوّلة، وشعب أسير خطاب المقاومة الذي تحوّل إلى أداة لتبرير كل خرق وكل مخالفة وكل اغتيال للدستور، لتبقى النتيجة واحدة: لبنان بلد ممزق بين نصوص قانونية لا تجد من يطبقها وميليشيا تفرض سلاحها كدستور بديل، وبين هاتين الصخرتين يذوب كيان الدولة حتى يكاد يختفي.