
كتب خيرالله خيرالله في اساس ميديا:
يمتلك لبنان صفات كثيرة تميّزه عن غيره من الدول. تشمل هذه الصفات قدرة أبنائه على تحقيق نجاحات تفوق كلّ تصوّر أينما ذهبوا في هذا العالم. لكن، يبقى أنّ الميزة الأهمّ التي يمتلكها لبنان، وهي نوع من أنواع العبقريّة، هي ميزة تدمير نفسه بنفسه. يفعل ذلك عن طريق العيش في الأوهام والاعتقاد في الوقت ذاته أنّ في الإمكان الهرب من الواقع الذي اسمه الجغرافيا من جهة، ورفض التعلّم من تجارب الماضي وتجاهل هذه التجارب من جهة أخرى.
تعني الجغرافيا وجود لبنان بين جارين هما إسرائيل وسوريا. إسرائيل تغيّرت بعد “طوفان الأقصى”، وسوريا تغيّرت مع رحيل بشّار الأسد. تعني تجارب الماضي ذلك الإصرار على العجز عن استيعاب أنّ اتّفاق القاهرة المشؤوم، الذي وُقّع في عام 1969، جلب الويلات على لبنان في غياب موقف موحّد من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، وقتذاك، من حصريّة السلاح.
تتجلّى العبقريّة اللبنانيّة في الوقت الراهن في وجود تجاذبات تتحكّم بالعلاقة بين رئيس الجمهوريّة جوزف عون ورئيس مجلس الوزراء نوّاف سلام في مرحلة بالغة الدقّة والحساسيّة تمرّ فيها المنطقة كلّها. مرّة أخرى تغيب القدرة اللبنانيّة عن استيعاب أهمّيّة ما يدور في المنطقة فيما على البلد حماية نفسه أوّلاً في ظلّ وجود لعبة أكبر منه بكثير تدور في الإقليم.
تسلّل إيرانيّ
سمحت هذه التجاذبات بين رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء بتسلّل إيرانيّ جديد إلى لبنان بهدف واضح كلّ الوضوح. جاء الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القوميّ الإيرانيّ علي لاريجاني إلى بيروت برسالة فحواها أنّ خسارة “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة لسوريا لا تعني بأيّ شكل خسارتها للبنان.
لن يكون تهديد نعيم قاسم نجاحاً للابتزاز الذي يتعرّض له لبنان من إيران و”الحزب” فحسب، بل سيكون أيضاً مقدّمة لتفكّك لبنانيّ
على الصعيد العمليّ، جاء المسؤول الإيراني الكبير إلى بيروت مع إضاءة صخرة الروشة بصورتَي حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين. جاء بتوقيت مدروس للقول إنّ “الحزب” لا يمكن أنّ يتخلّى عن سلاحه، وإنّ الكلام الذي يصدر عن الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” وعن مسؤولين آخرين فيه هو كلام إيرانيّ، لا أكثر، بمعزل عن خسارة “الجمهوريّة الإسلاميّة” لسوريا وموقعها.
جاء لاريجاني ليقول إنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” استعادت المبادرة في لبنان، وإنّ ما جرى في الروشة ليس سوى بداية، على غرار مرحلة ما بعد حرب صيف عام 2006. خسرت إيران، مع “الحزب”، الحرب عسكريّاً. لكنّها حوّلت الهزيمة العسكريّة أمام إسرائيل إلى انتصار كبير على لبنان واللبنانيّين، وهو انتصار تُوّج في عام 2016 بانتخاب، مرشّح “الحزب”، ميشال عون رئيساً للجمهوريّة.
لم تكن لدى لبنان في عام 1969 أيّ مصلحة في توقيع اتّفاق القاهرة الذي رعاه جمال عبدالناصر ومثّل فيه لبنان قائد الجيش المارونيّ (إميل بستانيّ) والجانب الفلسطينيّ ياسر عرفات. المخيف أنّ لبنان وقّع الاتّفاق بعد أشهر قليلة من إنذار إسرائيليّ جسّده إنزالٌ في مطار بيروت دمّرت فيه وحدة كوماندوس، أواخر عام 1968، معظم طائرات أسطول شركة “طيران الشرق الأوسط”. جاء الإنزال الإسرائيليّ ردّاً على عمليّات خطف لطائرات مدنيّة إسرائيليّة انطلق منفّذوها من مطار بيروت. استهدفت إحدى تلك العمليّات خطف طائرة لشركة “العال” بُعيد إقلاعها من مطار أثينا على يد مجموعة فلسطينيّة أتت عبر مطار بيروت. ضمّت المجموعة طالباً كان يدرس في الجامعة الأميركيّة!
جاء لاريجاني ليقول إنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” استعادت المبادرة في لبنان، وإنّ ما جرى في الروشة ليس سوى بداية
هل تنصرف إسرائيل إلى إيران؟
يبدو تسلّل لاريجاني إلى لبنان أشبه بإنزال إيرانيّ يُفترض بأهل الحكم أخذه على محمل الجدّ، خصوصاً في ضوء احتمال توقّف حرب غزّة. مثل هذا التوقّف، الذي يأتي بعد تدمير بنيامين نتنياهو القطاع وتشريد أكثر من مليونَي فلسطينيّ، سيجعل إسرائيل تنصرف كلّيّاً إلى إيران وأدواتها في المنطقة. يطرح ذلك على لبنان، في عام 2025، أسئلة ذات طابع مصيريّ في حال كان مطلوباً تفادي كارثة جديدة تأخذ شكل كارثة ما بعد اتّفاق القاهرة، الذي فُرض على البلد فرضاً في ظلّ خلافات بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة.
فُرِض الاتّفاق، في ظلّ تواطؤ عربيّ، بحجّة أنّ اللبنانيّين منقسمون على أنفسهم، وأنّ الخيار أمامهم بين حرب أهليّة من جهة وقبول بالتخلّي عن السيادة على جزء من الأرض لـ”المقاومة” من جهة أخرى. الحرب الأهليّة حصلت في 1975 وجاء بعدها الاجتياح الإسرائيليّ الذي تعمّد تكريس شروخ بين اللبنانيّين في 1982.
كان لافتاً تحذير نعيم قاسم، في خطاباته الأخيرة، من حرب أهليّة، وكان تراجع الحكومة عن “حصريّة السلاح” خياراً لبنانيّاً. مثل هذا التراجع لن يؤدّي إلى حرب أهليّة. لن يكون تهديد نعيم قاسم نجاحاً للابتزاز الذي يتعرّض له لبنان من إيران و”الحزب” فحسب، بل سيكون أيضاً مقدّمة لتفكّك لبنانيّ يدرك نوّاف سلام مخاطره مثلما يدرك أبعاد الاعتداء على معلَم بيروتيّ ولبنانيّ مثل صخرة الروشة.
خسرت إيران، مع “الحزب”، الحرب عسكريّاً. لكنّها حوّلت الهزيمة العسكريّة أمام إسرائيل إلى انتصار كبير على لبنان واللبنانيّين
مقدِّمة للسّيطرة
مثل هذا الاعتداء الموصوف هو مقدِّمة للسيطرة على القرار السياسي اللبناني عن طريق ضرب هيبة الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها، تماماً كما حصل بعد حرب صيف 2006 التي تلاها اعتصام في وسط بيروت، ثمّ اتّفاق الدوحة الذي كرّس “الثلث المعطّل” تمهيداً للسيطرة الإيرانيّة على لبنان.
وحدها وحدة الموقف اللبنانيّ من “حصريّة السلاح” على كلّ الأراضي اللبنانيّة، بعيداً عن أيّ تجاذبات مسيحيّة – سنّيّة، تمثّل حاجزاً في وجه الإنزال الإيرانيّ المستجدّ في ذكرى اغتيال حسن نصرالله.
من المفترض إدراك كلّ معنيّ بخطاب القسم الذي أدّاه جوزف عون، وتحدّث فيه عن حصريّة السلاح، أنّ إيران لا يهمّها مصير لبنان. تهمّها فقط المحافظة على موطئ قدم على البحر المتوسّط، مهما كانت جدّيّة حجم التهديد الإسرائيلي بحرب جديدة مدمّرة… ومهما كانت النتائج التي ستترتّب على مثل هذه الحرب التي تشكّل خطراً على وحدة بلد تحوّل فيه “السلاح” حليفاً أساسيّاً لاستمرار الاحتلال الإسرائيليّ لأراضٍ لبنانيّة!