
كتب طوني عطية في نداء الوطن:
يترنح “الحزب” كمن خارت أعصابه. فبعد أن كان يُملي على السلطة شروطه من موقع الغلبة ويصنع المعادلات الداخلية، بات اليوم يلاحقها لمجاراة التحوّلات الكبرى. يعلم أنّ تبدّل موازين القوى هذه المرة جاء طابشًا لصالح الدولة، التي تملك فرصًا نادرة إن أحسنت اقتناصها وتوظيفها. فالتاريخ لا يُسرف في منحها، بل يبخل بها، ومن يضيّعها، يُعيد البلاد إلى قبضة الدويلة.
لكن، على الرغم من هستيريته وفقدان توازنه السياسي – النفسي، يعي “الحزب” هذه المسألة. يراهن على لحظة ضعف في أركان الدولة، كما اعتاد خلال مسيرته. يحرّك صلياته الإعلامية المرئية والمكتوبة. يستعمل أقلامه المغمّسة بالدم، والمكرّسة لتمجيد القتَلة وكواتم الصوت، في محاولة لإشعال فتيل الشقاق والشكّ بين بعبدا والسراي. فتارة يُصوّر سلام وكأنه أداة للغرب، وطورًا يصف عون بالخاضع للإملاءات الأميركية. فتُهم الخيانة والعمالة أكثر ما ينضح بها إناؤه. حتى قال ساخرون عن “حزب الله”، إنه لو أتقن إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل، كما يتقن إفلات الشتائم ومفردات التخوين على اللبنانيين، لربما كانت هزيمته أقل قسوة.
إذًا، تعود جذور مشكلة “حزب الله” مع جوزاف عون إلى فترة قيادته المؤسسة العسكرية. فكم من حملة شنتها أبواقه الإعلامية ضده، متهمة إياه بالعمالة والفساد والانخراط باللعبة الداخلية، وتحويل الجيش إلى أداة ضدّ أهل الجنوب… حتى أنّ إحدى المقالات شبهته (عن جهلٍ أو عن قصدٍ) بالعماد ابراهيم طنّوس (الذي يرمز إلى السيادة والهيبة والقوّة الشرعية)، لتقديمه كـ “عميلٍ” لواشنطن. كما جنّ جنون “الممانعة” عقب كلام الرئيس عون في قمة قطر، حيث قال: “جاهزون للسلام على أساس المبادرة العربية”.
فـ “الحزب” الذي مُني بهزيمة كبرى في حربه الكبرى، يلجأ إلى سياسته الصغرى “القَلْبة بعد الغَلبة”؛ بمعنى نقل سهامه من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، يُهادن الأوّل على مضض، ويُشيطن الأخير بلا هوادة، في محاولة بائسة لزرع الشكّ، مستغلًا التباينات التكتيكية بين الرئاستين الأولى والثالثة، لتفكيك الانسجام المطلوب والضروري في السلطة التنفيذية. كما يسعى، من خلال زياراته إلى قصر بعبدا، وآخرها النائب محمد رعد أمس، إلى الإيحاء بأن نواف سلام تُرك وحيدًا في ميدان المواجهة، وأن التباين في مقاربة وضعية “حزب الله” بينه وبين الرئيس عون يتسع يومًا بعد يوم، في محاولة منه لتأليب الرئاستين على بعضهما.
في الموازاة، يسعى “الحزب” إلى توجيه رسالة مزدوجة إلى المجتمعَين العربي والغربي، اللذين شكّلا مظلّة حاسمة لانتخاب عون وتسمية سلام، مفادها أن الرهان عليهما سيخيب ولن يرقى إلى مستوى التوقعات. وكأنّه يريد أن يقول: لا استقرار مع خصومنا، ولا نجاح خارج إرادتنا.
غير أن مطّلعين على أجواء بعبدا والسراي يؤكدون أن الرئيسين عون وسلام يدركان تمامًا حجم التحدّيات ودقّة المرحلة. هما على توافق كامل بأن تنفيذ القرارات الدولية، وفي طليعتها سحب السلاح غير الشرعي، يشكّل أولوية لا تحتمل التأويل، باعتبارها المدخل الأساس لاستعادة سيادة الدولة، والممرّ الإلزامي لإعادة بناء الثقة الدولية بلبنان ومؤسساته.