سلايدات

“الحزب” من سلاح المقاومة إلى طبول الكشّافة

كتب نقولا ناصيف في أساس ميديا:

مَن يملك أن ينكر أنّ التاريخ يعيد أحياناً، لمَن لا يتّعظ، بعض وقائعه على صورة مطابقة، وأحياناً أخرى مقلوبة. عام 1936 ظهر حزب الكتائب منظّمةً رياضيّة كشفيّة، فحزباً سياسيّاً قادته أحوال البلاد إلى أن يصبح ميليشيا ثمّ مقاومة في “حرب السنتين”. ما إن ظهر “الحزب” إلى العلن عام 1985 على أنّه مقاومة لـ”العدوّ” وأنضج تجربته منذ عام 1992 على أنّه ليس سوى ذلك، وفاخر على الدوام باستعراض رجاله كما اعتاد أن يفعل حزب الكتائب قديماً، أطلّ أخيراً كشّافة مدنيّة كما لم يعرفه اللبنانيّون مرّة من قبل: مقاومة سرّيّة ثمّ علنيّة إلى أن خسر آخر معاركها مع إسرائيل. ليس الزمن قلّاباً فحسب، بل ساخر أيضاً.

 

استأثر مؤتمر السلام في شرم الشيخ في 13 تشرين الأوّل بالاهتمام متجاوزاً كلّ ما عداه في المنطقة، كما لو أنّ مساراً جديداً لها غير مسبوق، بمثل الإجماع الغربي ـ العربي الذي أحاط به، بدأ فعلاً وسيبدّل الكثير فيها.

لم يُدعَ لبنان إلى المؤتمر، إلّا أنّه حضر في جملتين مقتضبتين للرئيس الأميركي دونالد ترامب كانتا مهمّتين، دونما أن تعوّضا بالضرورة غيابه الذي احتاج إليه: الأولى في قوله إنّ “الحزب” “دُمّر”، قاطعاً بحقيقة ينكرها “الحزب” بقوله إنّه يتعافى ويعيد بناء نفسه ويتسلّح، والثانية حين أكّد دعمه الرئيس اللبناني جوزف عون وارتياحه إلى ما يقوم به لحصر السلاح في يد الدولة الذي تدعمه الولايات المتّحدة.

ميزان قوى إقليميّ حاسم

بذلك انتهى مؤتمر شرم الشيخ، بلا تفاصيل ما خلا خطّة إنهاء حرب غزّة، إلى ميزان قوى إقليميّ حاسم نجم عن وقف تلك الحرب. ما بعده وتداعياته على الداخل هما ما يعنيان لبنان بالذات، ويقتضيان أن يعنيا “الحزب” الطرف الآخر المباشر في حرب غزّة: انتهت خطّة ترامب إلى استسلام “حماس” وقبولها ببنودها بما فيها تجريدها من السلاح في القطاع وخروجها السياسيّ منه.

 بعدما اعتاد أن يكون خط الدفاع عن الطائفة أصبحت هي خط الدفاع عنه

أكثر ما بعث على الاهتمام بما حدث في شرم الشيخ أنّها من المرّات النادرة، إن لم تكن الأولى، التي تُبصَر فيها قواسم مشتركة تجتمع عليها الولايات المتّحدة والغرب والعرب وإسرائيل غير الحاضرة في المؤتمر، من أجل إيجاد حلول لمنطقة اكتشفوا جميعاً أنّ فيها من المصالح والمصائب ما لا يُعثر عليهما في مكان آخر.

المضاف إلى تلك الأهمّية أنّ الذهاب إلى استقرار المنطقة النهائيّ هذه المرّة سيُجرِّب ما كان خُوِّن في الماضي، وهو المواجهة مع إسرائيل من خلال السلم. في العقود المنصرمة أخفقت مع إسرائيل مواجهات الجيوش النظاميّة، ثمّ الكفاح المسلّح، ثمّ الحروب العقائديّة وآخر فصولها ما حدث في السنتين المنصرمتين في غزّة.

ماذا بعد الآن؟

ذاك ما سيقود إلى التساؤل: ماذا عن “الحزب” بعد الآن؟ ماذا يقتضي أن يفعل أو يسعه أن يفعل؟

ثمّة بضع ملاحظات:

1- إيلاء “الحزب” الاهتمام الأوّل لبيئته ليس بمخاطبتها فحسب على نحو ما اعتاد أن يفعل أمينه العامّ الراحل السيّد حسن نصرالله، بل استخدامها في الشارع في المواجهات الداخليّة الجديدة. ذلك ما أبرزه في ثلاث مرّات على التوالي، الذكرى الأولى لاغتيال نصرالله ثمّ إضاءة صخرة الروشة ثم االاحتفال الكشفيّ أخيراً.

الحزب

لم يعد التمسّك بالسلاح والإصرار على المقاومة خطاب “الحزب” وحده، بل بات خطاب الطائفة كلّها تقريباً بأن أقرن التشبّث به بكونه صمام أمان حمايتها من الداخل وليس مواجهة إسرائيل فقط.

بعدما اعتاد أن يكون واجهة الدفاع عن طائفته في العقود المنصرمة، في الدولة وفي الشارع، باتت هي أخيراً واجهة الدفاع عن سلاحه. على غرار ما اعتاد أيضاً أن يفعله من شهر السلاح في وجه الدولة اللبنانيّة وخصومه المحليّين، استبدله بها للتلويح في كلّ لحظة بأنّ الاستقرار والسلم الأهليّ بين المجموعات اللبنانيّة على وشك الانفجار. بات الحديث الرائج أخيراً أنّ “الشيعة” جميعاً، بمَن فيهم مَن لم يؤيّد “الحزب”، يعدّون السلاح صنو كيانهم ووجودهم.

معضلة “الحزب” اليوم “القطعة اللبنانيّة” في وظيفة سلاحه بعد انهيار دوره الإقليميّ

فقد دوره الإقليميّ

2- على طرف نقيض ممّا يُدلي به أمام بيئته، تجري داخل “الحزب” مناقشات أكثر جدّيّة وجدليّة حيال الأمر الواقع الجديد في المنطقة: خرجت “حماس” من المواجهة العسكريّة مع إسرائيل وتوشك على الخروج من غزّة، وتالياً فقدانه آخر فرص ما بقي من الدور الإقليميّ الذي تذرّع به على الدوام في سياق مشروع عقائديّ وأخلاقيّ كان يدافع عنه، تارة من أجل فلسطين، وطوراً من أجل النظام السوريّ السابق واليمن، علاوة على إيران في كلّ مرّة.

ما لا تنكره المناقشات الجدّيّة داخل “الحزب” أنّه فقد الدور الإقليميّ لسلاحه لعدم وجود دوافعه، وبات عليه مقاربة البُعد الداخلي له أو ما يصحّ تسميته بـ”القطعة اللبنانيّة” للسلاح. هذه بدورها معضلة له. منذ 27 تشرين الثاني 2024، مع إعلان وقف النار، لم تتوقّف يوماً الاعتداءات الإسرائيليّة على “الحزب” وقياديّيه ومقاتليه ومنشآته، لكن أيضاً على بيئته، بالقصف والاغتيال دونما أن يجازف بردّ فعل واحد، وإن كان رمزيّاً وحتى يتيماً، على أيّ منها تبريراً لتمسّكه بسلاحه وإعادة إيكال وظيفة مقاومة إسرائيل إليه.

مع أنّ مغامرة كهذه سهلة على حزب تمرّس طويلاً في هجمات انتحاريّة واستشهاديّة، علاوة على الحروب النظاميّة مع القوّات الإسرائيلية قبل عام 2000 وبعده، بات من المنطقيّ الآن أن لا يجرؤ على ما من شأنه أن يعرّضه للحرب مجدّداً.

إقرأ أيضاً: الشّرق الأوسط الجديد “لم” يولد في شرم الشّيخ

3- ليس قليل الأهمّية الظهور المدنيّ الذي بات أخيراً يطلّ به “الحزب” على اللبنانيّين، هو المعتاد فيما مضى على الاستعراض العسكريّ وإظهار أهليّته للقتال والاستعداد له في كلّ حين وتحريك اضطراب الشارع. ما خلا الشرائط الوثائقيّة التي تبّثها قناته التلفزيونيّة الموجّهة إلى بيئته يوميّاً بغية تذكيرها بشهدائها والاحتفاظ أمامها بصورة المقاومة المتعافية القادرة على استعادة موقعها المرجِّح في المعادلة الوطنيّة، يقدّم نفسه الآن على نحو لم يكن يتحدّث عنه فيما مضى، وهو طلب الشراكة الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى