
كتب طوني عيسى في الجمهورية:
ثمة مأزق يقترب منه لبنان بالتأكيد. وقد عبّر عنه توم برّاك بوضوح: «إذا لم تتصرفوا في مسألة السلاح التي تفتح باب المفاوضات، فإسرائيل ستتصرف من جانب واحد، في أي لحظة». فهل يتمكن اللبنانيون من إبرام تفاهمات داخلية تحسم طريقة التعاطي مع هذا الملف الملتهب، قبل أن يقع الجميع في المحظور؟
الفكرة السائدة في لبنان هي أنّ «حزب الله» يرفض أن يدخل لبنان في مفاوضات مباشرة، أو مفاوضات على مستوى رفيع، أو مفاوضات ذات طابع سياسي مع إسرائيل، لكنه يوافق على مفاوضات غير مباشرة، كتلك التي خاضها هو نفسه ذات يوم، من خلال حكومة نجيب ميقاتي، وانتهت إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية.
لكن الحقيقة هي أنّ «الحزب» يرفض اليوم تماماً كل أشكال التفاوض المباشرة وغير المباشرة. وما أعلنه الرئيس نبيه بري أمس يختصر الجواب بلغة ديبلوماسية: «الميكانيزم» وحده هو المسار المقبول حالياً، أي إنّ على الجميع أن يفهم: لا مفاوضات بأي إطار قبل إنجاز إسرائيل ما هو مطلوب منها مقابل التزام لبنان باتفاق وقف النار. وفي أي حال، العديد من كوادر «حزب الله» عبّروا في مناسبات مختلفة، عن رفض التفاوض، ولكن بنحو خافت. وعندما يجد «الحزب» نفسه مضطراً إلى المجاهرة، لكي يضع الجميع عند حدّهم، فسيرفع الصوت بقوة. وهذا ما بدا يفعله.
في منطق «الحزب»، إنّ دخول الدولة اللبنانية في أي مفاوضات مع إسرائيل، من خلال الوسيط الأميركي، ولو كانت غير مباشرة ومحصورة بالترتيبات الأمنية، سيشكّل خطراً جدّياً عليه. ففي الدرجة الأولى، إنّ قبول لبنان بالتفاوض فيما إسرائيل باقية في الجنوب وتتوسع، وتواصل ضرباتها اليومية، وتمنع كل إعمار أو عودة إلى القرى الحدودية، سيعني تكريس الواقع والاعتراف به، والبناء عليه لتقديم تنازلات أخرى. أي إنّ التفاوض تحت هذا الضغط العسكري سيستتبع نزع سلاح «الحزب» بكامله، وفق ما تطلب إسرائيل. وفوق ذلك، ستستفيد إسرائيل من كونها في موقع القوة المطلقة، لتحول المكاسب الأمنية والعسكرية مكاسب سياسية. وفي معنى آخر، سينزلق لبنان من المفاوضات الأمنية والعسكرية غير المباشرة إلى المفاوضات السياسية المباشرة، ووجود مورغان أورتاغوس على رأس لجنة مراقبة وقف النار، أو الأطر التفاوضية اللاحقة، يمهّد لبلوغ هذه الغاية.
المعنيون في الدولة تبلّغوا من «حزب الله» أنّه يرفض تماماً أي مفاوضات مع إسرائيل حالياً. لكن مشكلة هؤلاء أنّهم لا يستطيعون القول للأميركيين: «نرفض التفاوض»، لأنّ هذا الموقف سيكون سلبياً جداً إلى درجة استفزازية، ويرتد على لبنان سلباً بمزيد من الحصار والعقوبات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية، التي لا يستطيع تحمّلها في أي شكل.
لذلك، ابتكر رئيس الجمهورية جوزاف عون صيغة لفظية، فيها إيحاء بالاستعداد للدخول في مسار التفاوض والتسوية، وفيها مقدار وافٍ من الغموض، بحيث لا يشعر «حزب الله» بالاستفزاز. فقد أعلن أنّ «التفاوض مع إسرائيل هو أمر لا بدّ منه». وهذا تعبير غامض جداً، لأنه لا يوضح طبيعة المفاوضات التي يفكر فيها لبنان الرسمي: هل هي مباشرة أم غير مباشرة؟ سياسية أم ذات طبيعة أمنية ـ عسكرية فقط؟
يعتقد عون، والأرجح أنّ موقفه يمثل أيضاً رئيس الحكومة، أنّ الصيغة التي طرحها تكفي لتنفيس الضغط ظرفياً عن لبنان. لكن «حزب الله» تحسس من هذا الموقف خطراً داهماً، وحذّر من انزلاق لبنان إلى الفخ الأميركي والإسرائيلي. فسارع عون، من خلال مصادره، إلى إطلاق حملة تفسيرات لموقفه تطمئن «الحزب». فحرص على القول إنّ التفاوض المقبول غير مباشر وليس سياسياً، وسيتمّ وفق نموذج مفاوضات الترسيم البحري التي خاضها «الحزب» نفسه من خلال حكومة نجيب ميقاتي.
لكن هذا الموقف لم يكن كافياً لتطمين «الحزب»، لأنّه حالياً في موقع ضعيف مقابل إسرائيل، ميدانياً وسياسياً، بينما كان في ذروة قوته أيام مفاوضات الترسيم البحري، وكان الأميركيون والإسرائيليون يفاوضونه كصاحب قرار نافذ. وأما اليوم فيخشى الحزب أن تكرّس المفاوضات استضعافه ونزع سلاحه وإمساك إسرائيل بالمبادرة نهائياً. ولذلك هو يريد تجنّب كل أنواع المفاوضات، لعلّ ظروفاً داخلية وإقليمية تأتي له بانفراج، وتسمح باستعادة بعض التوازن مع إسرائيل. وحينذاك، يصبح التفاوض أمراً مقبولاً.
هذا الرفض المطلق للمفاوضات حالياً سيدفع لبنان الرسمي إلى مواجهة خطرة. فإما أن يتبنّى موقف «الحزب» فيصبح في مواجهة شرسة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد عبّر توم برّاك أمس عن هذا الخطر بوضوح شديد. وإما أن يهمل موقف «الحزب» ويسارع إلى الانخراط في نوع معين من المفاوضات، ولو كانت غير مباشرة. وحينذاك، سيعتبر «الحزب» أنّ الدولة تتواطأ عليه مع الأميركيين والأعداء، فيقع الانفجار في الداخل.
ماذا سيفعل لبنان الرسمي في الأيام والأسابيع المقبلة؟ هل سيكتفي بـ»الميكانيزم»، وفق طرح الرئيس بري، أم يوافق «الحزب» على تليين مواقفه، فيتمكن من مجاراة الدولة ويسهّل الأمور عليها؟ أي، هل سيتجاوز البلد هذا القطوع الخطر، أم سيقع المحظور؟