
كتب طارق الحجيري في المدن:
مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، يبدو لبنان عالقًا في حلقة مفرغة؛ إذ يتكرّر المشهد السياسي نفسه مع كل دورة انتخابية. بين الصراع على قانون الانتخاب والجدل الدستوري حول إدارة مجلس النواب، يتحوّل القانون الذي يُفترض أن يكون أداةً لتجديد الحياة السياسية، إلى ساحة صراع على النفوذ وموازين الطوائف.
قانون لا يكتمل
منذ انتخابات 2022، لا يزال النقاش محتدمًا حول تعديل القانون النسبي والصوت التفضيلي، خصوصًا في ما يتصل بتصويت المغتربين وتوزيعهم على الدوائر. ومع اقتراب الاستحقاق المقبل، يتجدّد السجال بين الكتل حول “العدالة التمثيلية”، في حين يبدو أن الهدف الفعلي لكل طرف هو ضمان حصته مسبقًا في المعادلة.
الخطاب الإصلاحي يبدو ظاهرًا، لكنه يخفي حسابات طائفية وحزبية وشخصية. كل كتلة تقرأ القانون من زاوية مصالحها، وتخشى أي تعديل قد يكسر التوازن القائم أو يفتح الباب أمام لاعبين جدد.
تكافؤ الفرص مفقود.. داخليًا أم خارجيًا؟
في خضمّ هذه السجالات، أضاف النائبان علي فياض وعلي حسن خليل بُعدًا جديدًا حين لوّحا بالطعن في قانون انتخاب المغتربين، بحجّة أن فريقهما لا يستطيع السفر إلى الولايات المتحدة للقاء ناخبيه، معتبرَين ذلك مسًّا بمبدأ تكافؤ الفرص.
لكنّ المفارقة، كما يلفت الصحافي علي الأمين في حديث إلى “المدن”، تكمن في سؤاله المعاكس: هل يتمتّع المرشّحون المنافسون للثنائي الشيعي في دوائر بعلبك – الهرمل والجنوب والضاحية بفرصٍ متكافئة داخل لبنان أصلًا؟
في مناطق يحكمها النفوذ الحزبي والسلاح، يجد كثير من المرشّحين – وفق الأمين – صعوبة في إقامة مهرجانات انتخابية أو حتى تعليق صورهم. بعضهم لا يستطيع دخول بلدته بحرّية، وآخرون يخوضون معركتهم من خلف شاشات التواصل الاجتماعي.
ويسأل الأمين: إذا كان نوّاب الثنائي عاجزين عن السفر إلى واشنطن، فخصومهم عاجزون عن السير بأمان في شوارع بلداتهم، “مثل اليونيفيل، كي لا نقول الجيش اللبناني أيضًا”.
تجارب مريرة
يؤكد الناشط السياسي الدكتور هادي مراد أنّ مراجعة انتخابات 2018 و 2022 في بعلبك – الهرمل تُظهر سلسلة اعتداءات وتجاوزات بحق المرشحين المنافسين، وصولًا إلى إطلاق النار ترهيبًا، واعتداءات جسدية طاولت ناشطين، فضلًا عن منع وصول مندوبي اللوائح المنافسة إلى مراكز الاقتراع، وسط غيابٍ شبه كامل للدولة وصمتٍ أمني مريب.
أمّا صوت المغترب، وفق مراد، فيخضع لقواعد مختلفة، خارج تأثير السلاح أو النفوذ المحلي، وهذا ما يجعل النزاع حول تمثيله أكثر حساسية، ومحاولة السيطرة عليه أكثر إلحاحًا لدى القوى المتضرّرة منه.
هكذا تصبح فكرة “تكافؤ الفرص” مجرّد شعار نظري، في ظلّ واقعٍ تحكمه موازين قوى سياسية وأمنية واقتصادية لا يملك أيّ قانون انتخابي القدرة على تعديلها. وتمثّل هذه المفارقة أبرز مظاهر الخلل في التجربة الديمقراطية اللبنانية، حيث تفقد العدالة الانتخابية معناها ما لم تُضمَن داخل لبنان أولًا، ولجميع القوى والمرشحين على قدم المساواة، بعيدًا عن الاستثناء أو الاستقواء.
الدستور يعود… نظريًا
بالتوازي مع الصراع على قانون الانتخاب، تتعالى الدعوات للعودة إلى الدستور في إدارة الجلسات التشريعية وتنظيم عمل مجلس النواب. غير أن هذه العودة تبقى في الغالب ظرفية، يُستدعى فيها النص حين يخدم موقفًا سياسيًا، ويُعلَّق حين يهدّد مصالح محددة.
وفي الأيام الأخيرة، اشتد الجدل حول إدارة المجلس، مع تصاعد الأصوات المطالبة بإصلاح قواعد العمل البرلماني، خصوصًا بعد تعطيل الجلسات المتبادل، ووسط اتهامات بتحكم رئيس المجلس بمسارها وفق اعتبارات سياسية.
يؤكد النائب أنطوان حبشي في حديث إلى “المدن” أنَّ “العودة إلى الدستور ليست خيارًا انتقائيًا؛ بل شرطٌ أساسي لإعادة الاعتبار للمؤسسات”، مشددًا على أن “الخلل القائم في الطريقة الاستنسابية بإدارة الجلسات يعكس هيمنة سياسية تحول دون ممارسة المجلس لدوره التشريعي والرقابي بحرية”.
وينفي حبشي أن تكون الدعوة إلى تفعيل دور المجلس بوصفه سلطةً مستقلة بهدف محاصرة الرئيس نبيه بري؛ بل إنّ “ممارسة بري بما هو رئيس فريق داخل المجلس ترسِّخ معركة النفوذ داخل المؤسسة التشريعية الأم، وتشكل امتدادًا مباشرًا للصراع السياسي والانتخابي في البلاد”.
يصعب إقناع اللبنانيين بأن الدستور هو الحاكم الفعلي للمؤسسات، بعد أن أثبتت التجارب أن العُرف السياسي أقوى من النص، وأن القرار الحقيقي يُتخذ خارج القاعة العامة لا داخلها، حيث تُدار البلاد بمنطق التسويات لا القوانين.
قديم يتجدّد
يقف لبنان اليوم على أعتاب انتخاباتٍ تتجاوز حسابات الأصوات والمقاعد، لتعيد طرح السؤال الأهم: هل يستطيع هذا النظام إنتاج منافسةٍ ديمقراطية حقيقية؟ أم إن “تكافؤ الفرص” لا يزال شعارًا تجميليًا، ما دامت القوانين تُفصّل على مقاس القوى، ويُستَخدم الدستور في خدمة المصالح؟ لتبقى الانتخابات مجرّد إعادة تدوير للماضي، بوجوهٍ جديدة ونتائج معلومة سلفًا.
 
 
 
 




