كتب جوني منيّر في الجمهورية:
حاول وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو دق ناقوس الخطر خلال زيارته للبنان، حيث التقى المسؤولين اللبنانيين. ولوكورنو المعروف بعلاقته الوثيقة بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، لفت إلى المشكلات الكبيرة والمتعددة التي تلفّ العالم، وهو أراد من خلال كلامه دفع اللبنانيين إلى عدم تفويت أي فرصة للمساعدة في حل الأزمة التي تكاد تخنق لبنان وتهدّد وجوده، والعمل على مدّ اليد في المقابل لإيجاد الحل المنشود.
فعدا الحرب الدائرة في اوكرانيا والتي تزداد تعقيداً في ظلّ التصعيد الحاصل لإجهاض أي مبادرة تهدف لوقف اطلاق النار، فإنّ التطورات في الشرق الاوسط تؤشر إلى مزيد من التعقيدات خصوصاً مع تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، والقائمة على خليط هجين ما بين اليمين الاسرائيلي واليمين المتطرف، وهي دشنّت اولى خطواتها بالزيارة الاستفزازية التي قام بها وزير الأمن ايتمار بن غفير إلى باحة المسجد الاقصى في القدس. وبالتالي فإنّ المشهد الاسرائيلي يؤشر الى منحى تصعيدي، وبالتالي دفع الامور الى الحماوة خصوصاً في الضفة الغربية.
هذا الى جانب التعقيدات التي عاودت ظهورها على الساحة العراقية، اضافة إلى المستجدات على المشهد السوري. كل هذه الصور من المفترض ان تنبئ اللبنانيين بشيء من المسؤولية الوطنية، وليس ابداً بالانزلاق في سياسة رفع السقوف والاستمتاع بترف هدر الوقت وإجهاض الفرص، خصوصاً أنّ مرحلة ما بعد الأعياد، والتي جرى التلويح بأنّها ستكون ضاغطة على المسؤولين المعرقلين، وستتضمّن عقوبات أميركية وأوروبيّة، قد بدأت.
وفي الكواليس الديبلوماسية، انّ ثمة مواصفات موضوعة يجب ان يتمتع بها الرئيس المقبل للجمهورية، وتمّ التفاهم حولها بين العاصمتين الاميركية والفرنسية، وهو وما يعني انّ المواصفات أهم من الأسماء رغم انّ كثيراً من المسترئسين يتهافتون على دخول نادي «المرشحين للرئاسة».
ووفق المواصفات الموضوعة بين واشنطن وباريس ان يكون الرئيس المقبل بعيداً كل البعد من الفساد هو والمجموعة المحيطة به، وان يكون قد خضع لاختبارات جدّية في هذا الاطار.
كما ان يكون صاحب سلوك رصين، وان يكون في الوقت نفسه مستقلاً وبعيداً من المحاور السياسية الاقليمية.
كذلك ان يكون قادراً على الاشراف على مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق معايير صحيحة وصارمة، بعيدة من سياسة الزبائنية السياسية التي اشتهر بها اسلوب الطبقة السياسية اللبنانية. وايضاً قدرته على التواصل مع جميع الأفرقاء من دون ان يكون مرتهناً لأي فريق سياسي، وان يعمل على استعادة هيبة الدولة، ويكون قادراً على إجراء الاصلاحات المطلوبة بالتعاون والتفاهم مع مجلس الوزراء، لا التناحر معه، ما يعطّل عمل الدولة كما كان يحصل دائماً.
وخلال إطلالته الاخيرة، طرح الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله شرطه الوحيد الذي يريده من الرئيس المقبل، وهو أن لا يطعن بالمقاومة، وأن لا يتآمر عليها.
الاوساط الديبلوماسية الغربية، والتي تابعت كلام نصرالله، رأت انّ كلامه كان معقولاً وقابلاً للتفاهم، لكنها تقرّ في الوقت نفسه بأنّه من المبكر الحديث عن اقتراب التسوية، لأنّ المسألة في حاجة إلى اجواء مؤاتية لم تكتمل بعد، لا لبنانياً ولا اقليمياً، لكنها اشارة واعدة يمكن البناء عليها لاحقاً.
في الواقع، فإنّ الذين تابعوا حادثة العاقبية والتي ادّت الى مقتل جندي من القوة الايرلندية العاملة في نطاق قوات الطوارئ الدولية، خرجت باستنتاج يفيد أنّ «حزب الله» لا يريد اي تصعيد او مواجهة في لبنان، وذلك بخلاف الصورة الاولية بعد حصول الحادثة.
وبدا ذلك واضحاً من خلال ردود الفعل الدولية الهادئة، والتي أعقبت مشاعر القلق التي ظهرت فور حصول الحادثة. وكان لافتاً الاسلوب الذي اعتمده «حزب الله» لتطويق ذيول ما حدث، ومن ثم تسهيل التحقيق الذي تولاه الجيش اللبناني والذي تابعته قوات الطوارئ الدولية، وايضاً تسليم المتورطين بإطلاق النار إلى الجيش، وهي في حدّ ذاتها رسالة تحمل كثيراً من المعاني. وكان واضحاً أن لا رسائل سياسية مطلوبة من الحادثة ولا خلفيات او ابعاداً اخرى تتجاوز الحدود اللبنانية.
وسط كل ذلك، ثمة انتظار ثقيل لإنضاج الظروف الاقليمية والداخلية. وخلال الايام الماضية سافر السفير السعودي وليد البخاري، في زيارة لم يُعلن عنها، إلى العاصمة الفرنسية باريس، ومن المفترض ان يكون الملف اللبناني حاضراً خلال لقاءاته.
والسعودية المعنية بالأزمة الرئاسية اللبنانية، كونها تُعتبر الطرف الرئيسي الذي سيساعد اقتصاد لبنان لاستعادة عافيته، تبقي على تواصلها مع دولة قطر حيال لبنان. فالمسؤولون القطريون الذين كانوا قد دخلوا مباشرة على الملف اللبناني بالتنسيق مع الرياض، عادوا وخففوا من وتيرة حركتهم، لكي تواكب التطورات الاقليمية وتكون وفق الإيقاع نفسه.
وفي المقابل، وفيما تستمر المساعي على خط بنشعي ـ السعودية، لفت الغزل المستجد من قِبل رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل بولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان. وهذا الغزل جاء بعد سلسلة خطوات تناقض الاصطفاف السياسي للتيار، والخطوة الاولى جاءت مع تواصل غير مباشر بين باسيل والبخاري، وتلا ذلك لقاء السفير السعودي في دارته مع وفد من طلاب «التيار الوطني الحر»، وثالث هذه الخطوات حصلت مع الحضور الفضفاض لنواب التيار ووزرائه ومسؤوليه خلال مؤتمر «الطائف 33» الذي دعت اليه السفارة السعودية. ويومها كان احتمال مشاركة جبران باسيل شخصياً في المؤتمر وارداً، قبل ان يفضّل عدم الذهاب. صحيح انّ القناعة الداخلية والدولية أنّ العلاقة بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» لن تصل الى الطلاق، وانّ ما يربطهما في العمق هو اقوى بكثير من التشققات الحاصلة على السطح، الّا أنّ الانطباع الغالب هو بأنّ تمايز باسيل او هامش المناورة الذي يقوم به، له علاقة بأسباب عدة، اهمها:
الاول، وهو السعي لإظهار هذا الخلاف، وبالتالي الابتعاد عن «حزب الله» لاستثماره في موضوع فك العقوبات عنه.
والثاني، وهو يتعلق بإعلان رفض نهائي لترشيح سليمان فرنجية، اياً تكن الدوافع والاسباب والإغراءات.
والثالث، إظهار لـ«حزب الله» انّ لـ«التيار الوطني الحر» حضوره وقدرة تحركه على الساحة السياسية، رغم خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا، وبمعزل عن «حزب الله»، اي انّه ليس صحيحاً ما اظهرته الانتخابات النيابية الاخيرة من أنّه يستمد حضوره من دفع «حزب الله». ولهذا سعى باسيل للقاءات داخلية وحتى خارجية متنوعة، والتي لم تكن تحمل مضموناً سياسياً فعلياً، بل فقط حركة من اجل الحركة.
والرابع، هو السعي لرسم موقع الناخب الأساسي والاول للرئيس المقبل.
وفي المقابل، جاء الرد واضحاً على لسان نصر الله، الذي اشار الى لقاءات قريبة مع «التيار الوطني الحر»، لكنه تحدث على اساس انّ الطرف الأساسي في العلاقة هو الرئيس عون وليس باسيل، وجاء سياق كلامه في إطار»إننا لا نجبر احداً على التحالف معنا»، وفهم المراقبون مضمون كلامه المتعلق بباسيل، بما معناه: «لا تشطح كثيراً في مناوراتك، تعال وعد الى الحظيرة».
وقبل كلام نصرالله، كانت وفود تمثل «حزب الله» تزور الأبرشيات المسيحية في زيارات ظاهرها للمعايدة، ولكنها حملت رسائل عدة، منها انّ «حزب الله» ليس محكوماً بمعادلة اما مع باسيل او مع جعجع، بل لديه خيارات عدة على الساحة المسيحية ابرزها بكركي.
ولذلك، كانت زيارة وفد «حزب الله» لمعايدة البطريرك الماروني بعد مقاطعة طويلة، على مستوى عالٍ من التمثيل. ومن الطبيعي ان يكون جرى التفاهم مسبقاً داخل قيادة «حزب الله» على ما تضمنه تصريح رئيس الوفد السيد ابراهيم امين السيد. وكان معبّراً جداً الكلام الايجابي الذي خصّ به قائد الجيش العماد جوزف عون، حين وصف العلاقة التي نشأت معه بأنّها بُنيت على الخير، واختيار هذا التوصيف الواضح له دلالاته. اضافة الى انّ السيد قال في سياق كلامه ومن خارج السؤال المطروح، بأنّه ليس لـ«حزب الله» «فيتو» على احد في موضوع رئاسة الجمهورية.
في اختصار، صحيح انّ الصورة في لبنان لا تزال ضبابية وغير واضحة، الّا انّ ثمة اشارات يمكن البناء عليها، وهي تنتظر مواكبة اقليمية لم تنضج بعد، وحركة داخلية على مستوى المسؤولية التي تتطلبها خطورة الأزمة التي تثقل لبنان.