سلايداتمقالات

لكِ العيد..

كتبت: كفا عبد الصمد

يُقال: ليس من السهل أن تكون لبنانيا”، إو على طريقة زياد الرحباني “مش هيني أنو تكون لبناني”، لكن اليوم أسمحوا لي أن أقول وبكل ثقة “ليس من السهل أن تكوني أما في لبنان”… في لبنان”.. إذا كانت الأمومة بحد ذاتها مهمة شاقة ففي بلدنا تصبح مهمة مستحيلة إلى حد كبير.. الأم هي المدرسة والوطن والإنتماء، هي الماضي والحاضر والمستقبل، هي السر الذي لا نبوح به إلا لأعماقنا، هي الثروة التي لا نعرف قيمتها إلا متى فقدناها.. لكن في لبنان ومع الأوضاع التي تحيط بنا، تتحول الأمومة إلى وظيفة شاقة تلقى على عاتق المرأة التي ميزها الله بهذه النعمة ، لأنها ستجد نفسها بين ليلة وضحاها ليست مسؤولة عن جنين نما في أحشائها في فترة سابقة وأبصر النور من عنق رحمها فحسب، بل ستكون أمام مسؤولية قاسية وتجربة شاقة لا تقدر عليها إلا المرأة اللبنانية لأنها تآخت مع الألم حتى بات جزء من يومياتها..

في الماضي، أدخلوا هذه الأم في لعبتهم الوسخة، وجعلوها تنتظر أبنا يعود إليها جريحا مرة وشهيدا مرارا، أو قد لا يعود وتمضي حياتها تنتظر مفقودا تعيش على أمل لقاءه، في بلد يعيش أحياءه صدفة الحياة وتسكنهم لعنة الموت كل لحظة.. أما اليوم، من ولدت على صوت الرصاص وتربت على أخبار الأحداث والحرب والقتل، أصبحت أما، لم تعد تطاردها لعنة الحرب، لكنها وجدت نفسها وجها لوجه أمام حرب من نوع آخر، لا تُزهق فيها الأرواح صحيح، لكن تُنتهك الكرامات وتُذل النفوس وتُكسر الأحلام..

لأنها بصيص الأمل في نهاية النفق ونقطة الحياة في لحظات الموت ولمسة الإيمان في عز الإنكسار، سلحت نفسها بالقوة، بعد أن توهمت أنها ستنجح من العيش حياة صحيحة رغم ولادتها في الزمن الخطأ.. الأم اللبنانية اليوم تقاتل على جميع الجبهات، لا تحمل سلاحا ولا تهددها بنادق قناصين أو رصاصات طائشة، لكن في حياتها أمور أشد خطورة من إنفجار وأقسى مرارة من الموت.. إنها مسؤولة عن تأمين رغيف الخبز لصغيرها، ومساعدة زوجها في تأمين حاجيات أسرته مهما كان عددها قليل، هي الرفيق والمعيل والداعم، هي العملة النادرة بجمبع وجوهها.. رغم أننا في القرن الحادي والعشرين، لكن الأم في لبنان لازالت تبحث عن حق لها في حضانة لأبنائها، وفي منحهم الجنسية.. تعيش ضمن شرنقة من الأعراف تنتهك حقوقها، لا نصفها القانون ولم يرحمها المجتمع. وكونها المؤتمنة الوحيدة على سلوك أطفالها بعد دخولهم سر المراهقة. إذا نجحوا في تخطي مخاض البحث عن الهوية الجنسية والإجتماعية والفكرية وأكملوا طريقهم بنجاح، فهم أولاد رجل طيب، وإذا فشلوا في الإختبار ووقعوا في مصيدة هنا أو مكيدة هناك، دخلوا من خلالها عالم الإنحراف وتغير مسار حياتهم، فهم أبناء لم تحسن الأم تربيتهم..

تعيش الأم اللبنانية خوفا ممزوجا بكل أنواع القلق والتوتر، تخاف على ولدها من إنتساب حزبي قد يدمر حياته ويأخذه إلى طريق مظلم يصبح فيه أسير زعيم هنا وخادم رئيس هناك، فكيف عليها أن تحميه من جماعة الزقيفة وتجعله يقف على حدود واحدة من الجميع، وتساعده في بناء شخصية مستقلة حرة وناضجة..

تخاف عليه من معشر السوء، والأصدقاء الذين يبدلون تفكيره وقد يأخذونه إلى مفارق مظلمة ويدخلون معه متاهات قاتمة يصعب الخروج منها..

تخاف عليه من اليأس والإحباط، تحاول أن تساعده على النجاح لكنها لا تملك مفاتيحا تقدمها له، وتقف مكتوفة الأيدي تريده أن ينطلق لكنها لا تملك جناحين تمنحهما له، بعد أن أوصدوا الأبواب بوجهها في بلد دمر ما تبقى من اسلحة تملكها للمواجهة..

تخاف عليه من غربة قد تسرقه مدى الحياة، فهي التي ربت وسهرت وتعبت وقدمت الغالي والنفيس ليحصل طفلها على ما يليق به، أمنت له كل ما يحتاجه ليسلك الطريق الصحيح، وغالبا ما جاءت على نفسها لتحمي فلذة كبدها، لكن سياسة وطننا لم تقدم له سوى تذكرة سفر أبعدته عن قلبها وعالمها، وحولتها إلى مجرد صورة يضعها في محفظته، حقيقة وهمية، يحن إليها لكنه لن يعود لها، هناك يعيش حياة كاملة بلا أم، لكن هنا يعيش مع أم بلا حياة..

تخاف عليه من قسوة الفراق، ومشقة الإغتراب ولعنة العيش وحيدا في مجتمع لا ينتمي إليه، وفي مكان لن يكون يوما وطنا له..

تخاف عليه من جوع وبرد ودمار، فهي الكادحة منذ الصباح الباكر وحتى المساء تبحث عن لقمة عيش لتؤمن حياة تليق به، تضحك بوجهه وتتألم كلما أدار نظره عنها، تحمل عينيها الأمل كل صباح وتغفو عينيها على دموع الحسرة مع بداية كل ليل..

تخاف عليه من نفسها، فهي لم تتمكن أن تقدم له سوى حبها، وتكتشف بالنهاية أن حبها لن يؤمن له وظيفة ولا مدرسة ولا كسرة خبز..

إلى الأم اللبنانية الثائرة والمناضلة والصابرة، لك العيد كل العيد، لك الحب كل الحب..أحبوا أمهاتكم، قبلوا وجوههم قدر ما تستطيعون، أمضوا معهن الوقت كل الوقت، لا تبخلوا عليهن بلحظة حب، وابقوا إلى جانبهن ما استطعتم، قد تغفلكم الحياة، وتسرقكم منها، وتصبحون في مكان بعيد لا تشتمون رائحتهن ولا تتنعمون ببركتهن.. أو في غفلة من الزمن، في ومضة سريعة، تتلفتون لتجدوا أن من كانت زينة الدرا رحلت، فتندمون على وقت كان لها وأخذتموه منها، وحينها لن ينفع الندم..

في عيد الأم.. كل عام وجميع الأمهات.. أمهات..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى