سلايدات

الفوضى و«الراديكالية» في إعادة تشكيل الشرق الأوسط..من كابول إلى دمشق!

كتب العميد المتقاعد وسام صافي في جنوبية:

في ١٥ أغسطس ٢٠٢١، دخلت حركة طالبان العاصمة كابول بعد انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة، مستغلة انسحابًا مفاجئًا وغير منظم للقوات الأمريكية وحلف الناتو. كان ذلك الحدث بمثابة إعادة تشكيل لمشهد الشرق الأوسط وجنوب آسيا، مشعلًا مخاوف من تصاعد موجات الراديكالية والتطرف في المنطقة. واليوم، تتكرر المشاهد في سوريا، حيث يشهد العالم انهيار النظام السوري واستلام المعارضة المسلحة السلطة في دمشق. يتم ذلك وسط تدمير ممنهج لقدرات الجيش السوري من قبل العدو الإسرائيلي، مما يوحي بتحضير الأرضية المناسبة لإقامة نظام مهادن للولايات المتحدة بجيش جديد عقيدته العسكرية غربية، وعتاده لا يشكل تهديدًا مستقبليًا على أمن إسرائيل الجغرافي. إنها عملية إعادة إنتاج للفوضى، لكن هذه المرة في قلب الشرق الأوسط.

 

سيطرة طالبان على أفغانستان جاءت كنتيجة طبيعية لعقود من التدخلات الدولية، والفساد المحلي، والفشل في بناء مؤسسات دولة مستقرة. انهيار الحكومة الأفغانية بهذه السرعة كان بمثابة إعلان ضمني عن تحول الأولويات الأمريكية من “بناء الدولة” إلى إعادة ترتيب مناطق النفوذ.

 

تسلم المعارضة التي تضم فصائل راديكالية سنية بارزة يعكس تدخلات دولية وإقليمية تهدف الى إعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة

في سوريا، لا يختلف المشهد كثيرًا. فبعد سنوات من الصراع الداخلي والتدخلات الخارجية، مع فشل النظام في تقديم إصلاحات جذرية، يعود التطرف ليحتل مكانة بارزة في المشهد السياسي. ويبدو أن تسلم المعارضة، التي تضم فصائل راديكالية سنية بارزة، زمام الحكم في دمشق مع استبعاد الأحزاب والتجمعات العلمانية والوطنية، ليس محض صدفة، بل يعكس تدخلات دولية وإقليمية تهدف الى إعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، بما يخدم مصالح قوى كبرى.

تركيا في حماية الإسلام الراديكالي

 

انهيار الحكومة الأفغانية بهذه السرعة كان بمثابة إعلان ضمني عن تحول الأولويات الأمريكية من “بناء الدولة” إلى إعادة ترتيب مناطق النفوذ

تركيا، التي تتمتع بنفوذ قوي في المنطقة، لعبت دورًا مزدوجًا في تعزيز الراديكالية الإسلامية. فمن جهة، تقدم نفسها كحاضنة للحركات الإسلامية السياسية، مستغلة هذه القوى كورقة ضغط في سياساتها الإقليمية. ومن جهة أخرى، تقدم دعمًا ماديًا وسياسيًا لبعض الفصائل المسلحة في سوريا وليبيا ومناطق أخرى.

تبرر تركيا دعمها لهذه الجماعات بحماية الأمن القومي ودعم المعارضة المعتدلة. لكن الواقع يظهر أن هذه الجماعات غالبًا ما تسهم في تفكيك الدول وزيادة الفوضى. تستغل أنقرة الإسلام السياسي لتوسيع نفوذها الإقليمي، خاصة بين المجتمعات السنية. هذا الدور يثير قلق دول المنطقة، التي تخشى أن تتحول تركيا إلى بوابة لتغذية النزاعات الطائفية وتفاقم تطرف الجماعات المسلحة.

 

العراق وصراع المرجعيات

العراق يمثل حالة خاصة في هذا السياق. بعد عقود من الصراعات الطائفية والتدخلات الخارجية، يواجه تحديات معقدة بسبب التوازنات السياسية الهشة والنفوذ المتزايد للمليشيات المسلحة. رغم نجاحه في تقليص نفوذ تنظيم “داعش”، إلا أن بقايا التنظيم ما زالت نشطة في بعض المناطق.

في هذا السياق، يظهر تضارب واضح بين توجهات المرجعية الشيعية العليا في النجف الأشرف، بقيادة السيد علي السيستاني، التي تركز على استقلال القرار الوطني وحصر السلاح بيد الدولة، وبين الفصائل الشيعية الموالية لإيران، التي تتبنى ولاية الفقيه وتعمل لتحقيق أهداف إقليمية. هذا التضارب يزيد من تعقيد المشهد الداخلي ويجعل العراق ساحة مستمرة للصراعات واستغلال القوى الإقليمية.

 

إيران وخطر استغلال النزعات الإثنية

ايران، التي طالما استفادت من الانقسامات الإقليمية لتعزيز نفوذها، تجد نفسها الآن في موقع دفاعي. تواجه طهران تحديات داخلية متزايدة بسبب الضغوط الاقتصادية، والاحتجاجات الشعبية، وصراعاتها مع الأقليات الإثنية، مثل العرب في الأحواز، والأكراد في الشمال الغربي، والبلوش في الشرق.

في ظل تصاعد الفوضى الإقليمية، ليس من المستبعد أن تُستغل هذه النزعات الإثنية من قبل قوى دولية وإقليمية لتقويض استقرار إيران من الداخل. هذا السيناريو قد يفتح الباب أمام حركات معارضة تسعى لتوسيع نفوذها بمناطق الأقليات، مما يهدد وحدة الأراضي الإيرانية ويُعمق أزماتها.

 

الفوضى كوسيلة لإعادة تشكيل المنطقة

يبدو أن هناك استراتيجية غير معلنة تقوم على استخدام الفوضى والراديكاليات كأدوات لإعادة تشكيل خرائط الشرق الأوسط. في أفغانستان، كان الانسحاب الأمريكي بمثابة ضوء أخضر لعودة طالبان، لكن بحكم راديكالي مهادن للسياسة الأميركية في جنوب اسيا. في سوريا، تدمير الجيش السوري وتفكيك بنيته العسكرية سيُضعف قدرة النظام العتيد المراد تشكيله على السيطرة السريعة وعادة توحيد الدولة وحماية الأقليات الاثنية والطائفية ولاحقاً حماية الحدود، مما يتيح المجال لبعض القوى المتطرفة لملء الفراغ.

 

تواجه طهران تحديات داخلية متزايدة بسبب الضغوط الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية وصراعاتها مع الأقليات الإثنية

القاسم المشترك هنا هو تراجع دور الدولة المركزية، وتحويل الساحة إلى ميدان صراع بين قوى إقليمية ودولية، كل منها يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب استقرار المنطقة.

 

إقرأ ايضاً: دمشق..«صندوق باندورا» انفتح لأبنائها والعالم!

 

يمكن القول إن المنطقة تشهد تحولًا استراتيجيًا كبيرًا، حيث يبدو النفوذ الأميركي في ازدياد، لا سيما من خلال دعم إسرائيل وتعزيز وجودها العسكري المباشر وغير المباشر. هزائم أذرع إيران في لبنان وسوريا، وسقوط النظام السوري قد تكون إشارات على دخول المنطقة فعلاً في “الزمن الأميركي.” ومع ذلك، تبقى الأمور مرهونة بالتطورات القادمة ومدى قدرة الأطراف الأخرى على التكيف أو الاستمرار بنهج الممانعة.

 

إسرائيل وتشكيل الشرق الجديد

لا يمكن تجاهل دور إسرائيل كفاعل رئيسي في عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط، خاصة في ظل استراتيجياتها الممنهجة لإضعاف الدول المحيطة. تعمل إسرائيل على تعزيز تفوقها العسكري والسياسي من خلال استثمار الفوضى في المنطقة. في سوريا، لعبت ضرباتها الجوية دورًا كبيرًا في استنزاف الجيش السوري وتدمير قدراته الدفاعية، بحجة مواجهة النفوذ الإيراني. لكن هذه الضربات تمتد أبعد من ذلك، إذ تهدف إلى ضمان عدم وجود جيش قوي مستقبلاً يمكن أن يشكل تهديدًا جغرافيًا أو استراتيجيًا لها.

 

إسرائيل، بدعم أمريكي واضح، تسعى لإعادة تشكيل خرائط النفوذ بما يخدم أهدافها طويلة الأمد. فهي لا تستهدف فقط الجيش السوري، بل تعمل على تفكيك ركائز الدولة السورية ككل، ما يخلق فراغًا تملؤه قوى متطرفة أو أنظمة ضعيفة، تُقاد بعقيدة أمنية وسياسية تضمن مصالح تل أبيب.

 

لا يمكن تجاهل دور إسرائيل كفاعل رئيسي في عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط، خاصة في ظل استراتيجياتها الممنهجة لإضعاف الدول المحيطة

هذا الدور لا يقتصر على سوريا، بل يمتد إلى مناطق أخرى في المنطقة. فإسرائيل تدعم تحالفات إقليمية جديدة مع بعض الدول العربية، بما يعزز نفوذها السياسي والاقتصادي، ويضعف أي جبهة مقاومة محتملة. يبدو أن الهدف النهائي هو بناء شرق أوسط جديد تتحول فيه إسرائيل إلى القوة المركزية المهيمنة، بينما تصبح الدول المحيطة مجرد كيانات ضعيفة أو تابعة.

 

هل هذا هو الشرق الأوسط الموعود؟

لطالما رُوِّج لفكرة “الشرق الأوسط الجديد” كمشروع لتحقيق الاستقرار والتنمية، لكن الواقع الحالي يعكس العكس تمامًا. فبدلاً من بناء دول قوية ومستقرة، يتم تدمير الجيوش والمؤسسات، مما يحوِّل هذه الدول إلى ساحة مفتوحة للصراعات الطائفية والسياسية.

 

رغم المشهد القاتم يبقى الأمل في بناء مستقبل أفضل للمنطقة قائمًا. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة الوطنية بعيدًا عن الأيديولوجيات المتطرفة

رغم المشهد القاتم، يبقى الأمل في بناء مستقبل أفضل للمنطقة قائمًا. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة الوطنية، بعيدًا عن الأيديولوجيات المتطرفة، والتركيز على بناء مؤسسات قوية تحقق العدالة والتنمية.

الشرق الأوسط الموعود يجب أن يكون مستقرًا ومزدهرًا، يخدم تطلعات شعوبه، وليس ساحة لإعادة إنتاج الفوضى. المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة إذا ما تضافرت الجهود لتحقيق تغيير حقيقي ومستدام.

هل ستتمكن شعوب المنطقة من كسر هذه الحلقة المفرغة؟ أم أن الفوضى ستبقى الحاكمة؟ الإجابة تكمن في يد القادة والشعوب على حد سواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى