
كتب نقولا ناصيف في اساس ميديا:
المألوف في كلّ عهد جديد أنّ سنتيْه الأوليَين على الأكثر هما أفضل ما يسعه أن يقدّمه رئيس الجمهوريّة ويؤكّد مقدرته على الإنجاز. في الثلث الثاني تبدأ متاعبه وارفضاض الحلفاء من حوله، وفي الثلث الثالث لا يملك سوى أن يخرج موفور الكرامة، وحيداً. يبدو العهد الحاليّ في الأشهر التسعة الأولى من الولاية كأنّه أضحى في النصف الثاني منها، وبات يدير الأزمة ولا يحلّها، وبلا حلفاء يحتاج إليهم كي لا يحكم فقط بالتعويل على الموظّفين الكبار في الدولة.
ربّما يصحّ القول إنّ جلسة مجلس الوزراء في 5 أيلول الفائت أدخلت البلاد في مرحلة إدارة أزمة بفعل تفسيرات متناقضة لما أسفر عنها: بين مَن يصرّ على أنّ قراراتها نافذة، ومن بات متيقّناً من أنّها باتت من الماضي.
ثلاث معضلات
لكن يصحّ القول أيضاً إنّ الجلسة هذه ستؤرّخ الأشهر الثمانية المنصرمة من العهد على أنّها فاصل حادّ بين الآمال المعقودة منذ 9 كانون الثاني 2025 وبين ما سيتوالى فيما بعد. الرئيس جوزف عون في مواجهة ثلاث معضلات مع ثلاثة أفرقاء أساسيّين، بدوا لوهلة أنّهم الحلفاء المعوَّل عليهم لعهده حتّى موعد الانتخابات النيابية المقبلة:
1- الرئيس نوّاف سلام بتراكم التباينات بينهما، بدءاً بتأليف الحكومة وتحفّظه عن توزير أسماء طلبها الأفرقاء، ثمّ تعيينات الأسلاك العسكريّة والأمنيّة وقد أُعطيت كلّها لرئيس الجمهورية بمَن فيهم غير المسيحيين، مروراً بتعيين حاكم مصرف لبنان الذي عارض سلام اختياره ثمّ فُرض عليه، وصولاً إلى ما نجم عن جلسة 5 أيلول بتقويضها نتائج جلستَيْ 5 و7 آب، وانتهاءً بصمت الرئيس حيال ما رافق حادثة صخرة الروشة.
“حبّة الكرز” المضافة إلى قالب الحلوى كانت تقليد قائد الجيش الوشاح الأكبر في توقيت لم يُرَ سوى أنّه جزء من “نكد” سياسيّ، ردّاً على اتّهام سلام الإدارات العسكريّة والأمنيّة بالتقصير.
ما يدركه حزب “القوّات اللبنانية” هو أنّه الرافعة المسيحية الثقيلة والفعليّة لرئيس الجمهورية
لا يُمنح الوشاح الأكبر إلّا لرئيس الدولة ورؤساء الدول الضيوف، كما الاستثناء لمَن تركوا بصمة في تاريخ البلد. لكن لم يسبق أن أُعطي قائد للجيش أو أيّ موظّف كبير آخر، وبالكاد مضت خمسة أشهر على تعيين العماد رودولف هيكل.
تباين الرأي، ثمّ الخلاف، بين رئيسَيْ الجمهوريّة والحكومة هما ابنا العهد بفعل المفاجأة التي أوصلت سلام إلى السراي، فيما كان المتوقّع أن يستمرّ فيها الرئيس نجيب ميقاتي. حتّى عشيّة الاستشارات النيابيّة الملزمة في 12 كانون الثاني.
في الغداة انتقل الكرسي الثالث إلى سلام. في الأيّام الثلاثة الفاصلة بين انتخاب رئيس الجمهوريّة وتسمية الرئيس المكلّف، بُنيت كلّ ترتبيات المرحلة الجديدة من حول الرئيس السابق للحكومة على أنّه شريك عون فيها. تلك أولى عوامل حساسيّة مبكرة نجمت عن تعامل رئيس الجمهورية مع الرئيس الجديد للحكومة على أنّه البديل وليس الأصيل.
تعايشا معاً، وراحا يواجهان تبايناتهما الحتميّة دونما أن تستعيد، حتّى الآن على الأقلّ، ما اعتاده أسلاف سلام من اعتكاف طويل الأمد وتعطيل جلسات مجلس الوزراء والتهديد بالاستقالة.
سابقة العهود
قد يصحّ تصوّر المساكنة الحاليّة بين عون وسلام على أنّها سابقة في علاقة رئيس للجمهوريّة برئيس للحكومة ولمّا يزل العهد في الأشهر الأولى من ولايته، وهو ما لم يحدث في أيّ من حكومات ما قبل اتّفاق الطائف وما بعده.
3- ثاني الخصوم الحاليّين، “الحزب” الذي ما إن دخل على خطّ السجال مع رئيس الجمهوريّة على نحو غير مباشر من خلال النائب حسن فضل الله، أكّد تعهّدات قطعها عون لـ”الحزب” بعدم سحب سلاحه، وذاك ما سيعيد “الحزب” تأكيده بعلامتين جازمتين بالتعهّدات المبرمة:
أولاهما اجتماع قائد الجيش السابق في 9 كانون الثاني بين دورتَيْ انتخابه بالنائبين محمد رعد وعلي حسن خليل. سوى ما قاله أمامهما، انتحى عون برعد جانباً في منزله كي يقول له وهو يطمئنه قاطعاً: لن أقدم على أيّ أمر يتعلّق بسلاح “الحزب” بلا حوار وتفاهم معكم.
بالرعاية السعوديّة يكتفي رئيس الجمهوريّة وحزب القوات اللبنانية بربط نزاع ليس إلّا
ثانيتهما الملاحظة التي استوقفت كلّ من حضر جلسة الانتخاب. دُعي الرئيس المنتخب إلى أداء القسم الدستوريّ. بهبوطه الدرج المؤدّي إلى داخل القاعة العامّة في المجلس، مرّ برعد وأدّى التحيّة له في طريقه إلى المنصّة. فُهِم أنّ هذه العلامة تأكيد المتّفَق عليه بينهما لوقت قصير مضى.
ليس الحوار الأوّل آنذاك بين عون ورعد. المعتاد في “الحزب” أن يكون محاوره مع رئيسَيْ الجمهوريّة والحكومة هو حسين خليل (لم تجمعه مرّة علاقة بعون) كما علي حسن خليل باسم برّي. إلّا أنّ اغتيال الأمينين العامَّين السابقين السيّدَين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين قاد إلى إيكال التواصل السياسي إلى رعد وإيكال مهمّات “الحزب” وقاعدته الإداريّة إلى الأمين العامّ نعيم قاسم.
تبعاً للتعهّدات تلك، صوّت الثنائي الشيعي لعون رئيساً للجمهوريّة.
بعد صدمة قراري حكومة سلام في 5 و7 آب، جاء قرار 5 أيلول ليلغي مفاعيل ذيْنك القرارين، وكرّس حتّى إشعار آخر المساكنة الهادئة بين سلاح “الحزب” والدولة اللبنانيّة والجيش.
امتعاض غير مكتوم
3- حزب القوّات “اللبنانية” الذي لا يخفي امتعاضه ممّا نجم عن جلسة 5 أيلول وتعليق قرار حصر السلاح، وهو أوّل شعارات علاقته برئيس الجمهوريةّ، يقف في الوقت نفسه إلى جانب رئيس الحكومة ويطري عليه لتمسّكه بنفاذ قرار حصر السلاح.
على أبواب الانتخابات النيابية العامّة بعد ثمانية أشهر، يبدو الأكثر أهميّة لـ”القوّات” خوضها والخروج منها بكتلة أكبر من تكتّلها الحالي بنوّابه الـ20. ذلك ما يُسمع داخل أوساط “الحزب” معبّرة عن ميلها إلى المعارضة أكثر منها إلى الاستمرار في الموالاة، وتالياً تفضّل الخروج من الحكومة. مانعها الرئيس ما وصل إليها من موقف سعوديّ مؤدّاه أن لا تغيير حكوميّاً قبل انتخابات أيّار 2026، ومن غير المؤكّد بعدها أنّ سلام لن يكون على رأس حكومة ما بعد الانتخابات.
في الأيّام الثلاثة الفاصلة بين انتخاب رئيس الجمهوريّة وتسمية الرئيس المكلّف، بُنيت كلّ ترتبيات المرحلة الجديدة
أمّا ما يدركه حزب “القوّات اللبنانية” فهو أنّه الرافعة المسيحية الثقيلة والفعليّة لرئيس الجمهورية، ويعزو اجتماع رئيسه سمير جعجع بالقائد السابق للجيش في 8 كانون الثاني إلى الاستجابة لرغبة الموفد السعودي يزيد بن فرحان.
مع ذلك يأخذ جعجع على الرئيس، علاوة على تردّده في خطوات إجرائيّة جدّية لسحب السلاح وتعمُّد مراعاة “الحزب”، إحاطة نفسه بفريق معاونين كان سابقاً في “التيّار الوطني الحرّ”، إضافة إلى اهتمامه باستقطاب النوّاب المستقيلين من “التيّار”، وهؤلاء جميعاً على طرف نقيض من حزب “القوّات اللبنانية”.
بمقدار شعور عون بضعف النائب جبران باسيل وإقصائه من المواقع ومن أيّ دور في الولاية، يتحوّل حزب “القوّات اللبنانية” الهدف التالي. ربّما التعبير الأكثر ملاءمة لما عليه الطرفان أنّهما، بالرعاية السعوديّة، يكتفيان في الوقت الحاضر بربط نزاع ليس إلّا.