
كتب العميد المتقاعد وسام صافي في جنوبية:
في خضم التحولات العاصفة التي تمرّ بها سوريا منذ اندلاع الأزمة، يبقى الدروز أحد المكوّنات التي تتقاذفها الأجندات الإقليمية، حيث تسعى بعض القوى إلى توظيفهم لخدمة مصالحها بينما تفشل أخرى في تقديم أي ضمانات حقيقية تضمن لهم مستقبلاً مستقراً ضمن وطنهم. وفي هذا السياق، لا تقتصر التهديدات على الأطماع الإسرائيلية التي تحاول استغلال الورقة الدرزية لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، بل تمتد إلى سيناريوهات ما بعد سقوط حكم عائلة الأسد، حيث يواجه الدروز، كما غيرهم من الأقليات، تحديات حقيقية أمام احتمال سيطرة قوى راديكالية ترفض الاعتراف بالتعددية وتسعى إلى فرض رؤيتها بالقوة، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل هذه المكونات في ظل غياب نموذج حكم مدني قادر على استقطابهم بدلاً من تهميشهم أو مواجهتهم بالعنف.
ازدواجية الخطاب الإسرائيلي: بين ادعاء الحماية وممارسة التمييز
لطالما حاولت إسرائيل تصوير نفسها كحامية للدروز، سواء داخل الأراضي المحتلة أو في سوريا، مستخدمة شعارات زائفة حول “التحالف التاريخي” معهم. إلا أن سياساتها الفعلية تناقض هذا الادعاء، حيث يخضع دروز الداخل المحتل لمنظومة تمييزية واضحة، سواء من خلال التجنيد الإجباري أو عبر القوانين التي تكرّس تفوق العنصر اليهودي، كما ظهر في “قانون القومية” الذي حوّلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية.
إسرائيل تمارس ضغوطًا ممنهجة
أما في الجولان، فإن إسرائيل تمارس ضغوطًا ممنهجة، سواء بمشاريع مصادرة الأراضي أو عبر التضييق الاقتصادي، في محاولة لإجبار السكان على الاندماج قسرًا في منظومتها. وفي الجنوب السوري، ورغم حديثها عن حماية الدروز، لم تتدخل تل أبيب عندما استهدفتهم تنظيمات متطرفة كما حدث في هجمات السويداء عام 2018 أو في إدلب عام 2015، ما يؤكد أن دعمها ليس إلا أداة للابتزاز السياسي، تُستخدم متى احتاجتها لتحقيق مصالحها.
الأهداف الإسرائيلية في الجنوب السوري:
محاولة تحييد الدروز لخدمة مصالحها
لا يخرج الاهتمام الإسرائيلي بالدروز في سوريا عن نطاق المصالح الاستراتيجية، حيث ترى تل أبيب أن الجنوب السوري يمثل جبهة حساسة، خصوصًا مع تزايد نفوذ إيران وحزب الله هناك. وعليه، فإن محاولاتها لكسب ولاء الدروز، أو على الأقل تحييدهم، تصبّ في خدمة هدفها المتمثل في إبقاء هذه المنطقة تحت السيطرة ومنع استخدامها كنقطة انطلاق لأي تهديد أمني.
إسرائيل ترى في دروز سوريا ورقة تفاوضية مستقبلية يمكن توظيفها لتعزيز مشاريع التقسيم
كما أن إسرائيل ترى في دروز سوريا ورقة تفاوضية مستقبلية يمكن توظيفها لتعزيز مشاريع التقسيم أو لتمرير تدخلاتها تحت ذريعة “حماية الأقليات”. وهذا يتماشى مع استراتيجيتها في مناطق أخرى، حيث استخدمت مجموعات محلية لخدمة أجندتها ثم تخلّت عنها بمجرد انتفاء الحاجة إليها.
مرحلة ما بعد الأسد: غياب الضمانات وانزلاق الحكم الانتقالي نحو الإقصاء
مع التسليم بأن نظام الأسد بات في مرحلة أفول حتمية، يبقى السؤال الأهم: ماذا بعد سقوطه؟ ورغم أن كثيرين ينظرون إلى إسقاطه كفرصة لإقامة نظام أكثر عدالة، إلا أن التجارب في مناطق المعارضة أظهرت أن البديل قد لا يكون بالضرورة أكثر ديمقراطية أو احتواءً للمكونات المختلفة.
فعوضًا عن تبني خطاب سياسي جامع يشجّع الأقليات على الانخراط في مشروع وطني، أظهرت بعض المجموعات الراديكالية التي تصدّرت المشهد استعدادًا لاستخدام القوة ضد كل من لا يتبنى رؤيتها، وهو ما شكّل عامل نفور للدروز وغيرهم من الأقليات. فقد غابت الضمانات الفعلية التي تطمئنهم، فيما تحوّلت الخلافات السياسية إلى استعراضات عسكرية واستقطاب قائم على التخوين بدلاً من استيعاب التعددية.
تحوّلت الخلافات السياسية إلى استعراضات عسكرية واستقطاب قائم على التخوين
إن الاستمرار في هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من التفتت، حيث ستجد المجموعات المهمشة نفسها مضطرة للبحث عن خيارات أخرى لحماية وجودها، سواء من خلال الانعزال أو عبر تحالفات مؤقتة قد تكون مكلفة على المدى البعيد. وفي ظل غياب رؤية حكم مدني واضح، يصبح من الصعب إقناع هذه المكونات بالمشاركة في أي مشروع سياسي جديد.
فرص بناء نموذج وطني يستوعب الجميع
إن أي تغيير حقيقي في سوريا لا يمكن أن ينجح دون تقديم ضمانات واضحة للأقليات، ليس فقط من خلال التصريحات، بل عبر خطوات فعلية تعكس التزامًا بالمواطنة المتساوية. فبدلاً من استعراض القوة لفرض واقع جديد، يجب التركيز على بناء دولة مدنية تستوعب التنوع وتحمي جميع مكوناتها.
من هنا، فإن القوى التي تطمح إلى حكم سوريا بعد الأسد يجب أن تدرك أن استقطاب الدروز وغيرهم لن يكون ممكنًا إذا استمرت في مقاربة الخلافات بالعسكرة بدلاً من الحوار، وإذا لم تقدّم رؤية واضحة حول مستقبل هذه المكونات ضمن الدولة. فالتجارب أثبتت أن الحكم الإقصائي يولّد مقاومة، بينما الحكم القائم على الشراكة يخلق استقرارًا طويل الأمد.
المصلحة الوطنية تتطلب نهجًا مختلفًا
بين التهديدات الإسرائيلية والتحديات الداخلية، يجد الدروز أنفسهم أمام معادلة معقدة تتطلب توازنًا دقيقًا للحفاظ على وجودهم دون السقوط في أفخاخ المشاريع الخارجية. وفي المقابل، فإن أي سلطة مستقبلية في سوريا يجب أن تدرك أن تجاهل الأقليات أو التعامل معها بسياسات الإقصاء لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمات.
إن بناء سوريا جديدة يتطلب نموذجًا سياسيًا يضمن للجميع مكانًا دون الحاجة إلى البحث عن تحالفات خارجية أو اللجوء إلى خيارات اضطرارية. وهذا لن يتحقق إلا من خلال مشروع وطني يستند إلى مبادئ الدولة المدنية، حيث يكون الولاء للوطن وليس للطائفة، وحيث تكون الحقوق مكفولة للجميع، دون تمييز أو استثناء.